يوم الاربعاء 22 جوان 2011 بعد جلسة صاخبة انسحب ممثلو حركة النهضة من اجتماع الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والإصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي ومآرب أخرى ليس للشعب الثائر القاصر أن يعلمها... انسحبوا بعد أن كانوا علّقوا مشاركاتهم من مداولاتها الأسبوعَ المنقضي. منذ البدء بدا كما لو أنّ تلك الهيئة الموقّرة قد نصّبتها قوى ميتافيزية وانتدبت لها نِصابا من الأعضاء يوهم بالعدل بين مختلف المكوّنات المدنيّة والقوى الحزبية المعترَف بها بمقتضى الثورة وتداعياتها... انتدبت من كلّ حزب ثلاثة أعضاء... واختارت لها بعناية نساء ديمقراطيات ورجالا ديمقراطيين من فصيلة الشخصيات الوطنية... ولا أحد يعلم الجهة التي اختارت أولئك الديمقراطيين وهؤلاء الديمقراطيات.. ولا أحد يدرك المقياس الذي على أساسه كان اختيار الشخصيات التي اختُزلت فيها صفة الوطنية من بين شعب تونس الذي يفوق عشرة ملايين سكّانُه... بل لا أحد من بناة الثورة والسائرين في ركابها من ضحيا الظلم السياسي والفساد المالي والإجحاف الجهويّ من الذين جُفّفت منابعهم ونُهبت مرابعهم وقُضّت مضاجعهم وسالت مدامعهم.. لا أحد من كلّ هؤلاء وأولئك يدري ما الذي يعنيه هذا التوصيف أو يعرف من الذي شهد لتلك الشخصيات بالوطنية واصطفاها على أساسها دون أن يدريَ بالأمر الجلل سكّانُ تونس الخضراء جميعهم.. كبيرهم وصغيرهم عامّتهم ونخبهم؟ * * * بعد خلع الدكتاتور هدأت الثائرة وترك الشعب العظيم المجال للمجتمع السياسيّ ينجز الحلقة الثانية من الثورة لإيمانه بأنّ منطق الثورة يقتضي شرعية دستورية تسدّ الخلل وترتق الفتق وتحمي الوطن من الفراغ.. غير أنّ محترفي السياسة والصائدين في مياهها تركوا الشعب ومطالبه واتخذوا من الثورة غنيمة... ولم يكن لهم من همّ سوى الظفر بقسط منها ومن ثمّ اقتسامها وتهريبها بعيدا عن أعين الشعب بعد مداورة ومراودة تقتضي الخطّة أن تطولا عسى أن يصاب الشعب بالملل وينصرف كلّ إلى غايته الخاصّة بعيدا عن الهمّ العامّ.. * * * قفزت إلى المشهد فصائل كانت بالأمس في صفّ الموالاة.. موالاة النظام البائد.. ومن موالي الرئيس المخلوع.. يسبّحون بحمده دونهم ويمجّدون عهده ويُلبسونه من الشرعية ما طال به عمره وامتدّ به فساده واستفحل إفساده.. فصائل من مناضلي الاحتفالات ومن المناشدين ومن مختلف المشتقّات: - فصيلة طالما اتُّهمت بمعاشرة بورقيبة وخلَفِه من بعده، من قِبل بني أمّها وأكلة قصعتها، لا من قِبل غيرهم من النقائض الإيديولوجية... لبست جبّة التجديد بعد سقوط جدار برلين وانهيار القطب الاشتراكيّ... عملا بمنطق لكلّ بضاعة وقت ولكلّ صناعة سَمت... هذه الفصيلة العتيدة السعيدة في مختلف العهود والعقود بدا كأنّها قد أعدّت للأمر عدّته كصاحب المطوّقة في الخرافة. وبعد طويل الشقاق عاد الوفاق إلى الرفاق بفضل سحر الهيئة الموقّرة.. وتناسوا على وقع الغواية ما كان من تنافرهم وتدابرهم وتناحرهم تكفيرا وتخوينا وتأثيما... لا تستغربوا عبارة التكفير لأنّ بعض الرفاق لا يقلّ كهنوتيّة عن رهبان الكنيسة. - فصيلة نساء ديمقراطيات: وقد كنّ إلى وقت قريب من محظيات بن علي.. ورثهنّ عن سلفه بورقيبة الذي أنجبهنّ وقد بلغ شيخوخته التي نعرف في ثمانينيات القرن الماضي.. وبعد اقتدائهنّ بإمامتهنّ ليلى التي كانت تخلع عليهنّ من ديمقراطيتها ولا تجود منها إلاّ بمقدرا ما تسمح به نون النسوة تخلعها عليهنّ متى رضيت وتحرمهنّ إذا رهبت.. بعد طويل الاقتداء قلبن الرداء وركبن الثورة وصرن من سدنة الحداثة ودعاة الوطنية، وهنّ لم يلتقينهما يوما... ألم تقل قائلتهنّ تلك المتفائلة بطبيعتها يوم الثالث عشر من شهر جانفي قبيل هروب المخلوع تعليقا على خطاب الوداع بلكنة فرنسية لا تستطيع التعبير بسواها "الخطاب !.. إنّه لحظة تاريخية.. أنا اليوم أثق ببن علي.. أقولها جيدا أمام العالمين.."...قالتها ثلاثا وتهدّج صوتها وكادت تجهش بالبكاء... لقد جيء بهنّ ممثّلاتٍ للمرأة التونسية ليزينّ بحسنهنّ الهيئة.. لا بأس.. فالمرأة التونسية التي صنعت ثورة هذا الشعب العظيم قوّة وفعلا يتسع صدرها وصبرها للنساء الديمقراطيات ولكلّ من هبّ من الكائنات ودبّ... - فصيلة شخصيات وطنية: منها من دخل الهيئة بجواز عبور إسرائليّ فجاء مكلّفا بمهمّة التطبيع مع التطبيع... ومنها من جاءها بمحض بيت شعريّ به فعلٌ مسندٌ إلى ضمير المتكلّم وبعنوان قديم يُذكر به مَرْبع البوعزيزي الذي من وقوده اندلعت الثورة في مختلف ربوع تونس.. لعلّ وعسى... ومنها من جاء متسللا بحثا له عن موقع تحت شمس الثورة وقد أزال الظلّ وجاهته وذهب الذلّ بنضارته... ومنها من جاء يطلب التوبة بعد لوثة علقته من معاشرة غير شرعية للنظام البائد.. ومنها من جاء لا يدري وهو لا يدري أنّه لا يدري... * * * حضرت النهضة لتكون شاهد زور تمرّر بحضرتها مشاريع اغتيال الثورة والإفساد السياسي والاعتلال الديمقراطي... وبعد طويل العناء ومتّصل العناد وقد اتحد الرفاق على التلاقي والتفّت الساق بالساق، اشتدّ الخناق واستحال الوفاق فانتهت الزيجة وحلّ على البغض الطلاق... والآن ذلّت طريق بن عاشور والعائلة الوطنية الديمقراطية الحداثية وزالت العوائق من طريق الإصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي والمآرب الأخرى... لعلّ سدنة الحداثة ورهبان الديمقراطية يبلغون بالثورة غاياتها ويحققون للشعب مطامحه... لقد عاد الركح إلى صورته الأولى لمّا انقلب بن علي على سلفه... عندها تهافت جمهور من المناضلين على مائدة المخلوع يمدّون له يد العون حتى يستأصل شأفة خصوم اجتمع الرأي على ضرورة الخلاص منهم... وفي غفلة من الشعب دارت رحى الاستئصال على مختلف الصّعد... وربح بن علي المعركة ضد الإسلاميين بفضل أهل الفضل من الحداثيين الوطنيين الديمقراطيين ومشتقات المدنيين المتبرئين من خصومهم... ولعلّ قائل القوم يقول: آل الأمر إلينا وصارت الثورة في أيدينا... فليخلد الشعب إلى الراحة لأنّ الأمانة بلغت برّ الأمان وهي بين أيادٍ أمينة... سلام على الأمانة وإلى ثورة أخرى تزيل ما لم يزُل... نورالدين الغيلوفي