كتب زميلي وصديقي الحكيم والأستاذ أحمدذياب مقالاشيقاتحت عنوان " لست عربيا ...و لله الحمد " شمل أزمة الهوية التي يمر بها شعبنا. وتأييدالما قدمه في هذا المقال أريد أن أطرح مفهوم الهوية التي أعتبرها العروة الوثقى للأمم في كل مكان وزمان. فلا يسعني إلا أن أذكرأنها انكسرت وتلاشت في بلادنا فأصبحنا شعبا لا يدري من هو، غمره الشك في أصله وفصله وتجرد من ذاته وحاول تقمّص شخصية الشعوب الغربية. سوف أحاول شرح هذا الوضع الاجتماعي والأخلاقي الوخيم الذي تمر به بلادنا والذي أعتبره مرتبطا ارتباطا متينا بأزمة الهوية الناتجة عن المنظومة التربوية التي اعتمدتها وزارة التربية والتعليم منذ الاستقلال. تتألف الهوية منثلاثةأركان،اللغة والدين والمعتقدات والعادات والتقاليد. وهوية الإنسان حسب قاموس المعاني هي حقيقته المطلقة وصفاته الجوهرية. وسؤالي الجدير لكل مواطن هو:من نحن؟ وما هي الخصوصيات التي تميزناعن باقي الأمم كالفرنسيين أو الألمان أو الصينيين مثلا؟ والجواب سهل جدا. نحن شعب ينتمي إلى كتلة بشرية عظمى تدعى العالم العربي الإسلامي تجمع شمل كل من شعوبها اللغة العربية والمعتقدات والعادات والتقاليد التي تختلف اختلافا كبيرا بالنسبة للأمم التي ذكرتها. لقد عرض لنا الحكيم أحمد ذياب ما سمعه عن العرب من شخص يعتبر نفسه منحدرا من جذور إسبانية وأن لا علاقة له بالعرب بتاتا. وهنا لا بد من توضيح سوء فهم جلي ومنتشر في نظر الأكثرية عندنا، وهو أن الذي يتكلم اللغة العربية لا بد أن تكون أصوله العرقية عربية وهذا هو الخطأ الفادح إذ أن اللغة العربية ليست لغة العرب بل إنها اللغة الواضحة اللسان ومن تحدثها فهو عربي اللسان وليست نسبة للعرب وليست عرقا أو عنصرا ولا انتماء إقليميا. وفي دراسة قام بها وليام مارسي في هذا الشأن يقولإنه لا يوجد خطأ أعظم من الاعتقاد في أن التقسيم بين الناطقين بالعربية والناطقين بالبربرية يعكس تقابلا بين جنس عربي وجنس بربري. و نذكّر أننا شعب إفريقي،ننحدر من الإنسان الزنجي قبل تكوين الصحراء بسبعة ملايين سنة. وهكذا تم عزل شمال إفريقيا عن بقية القارةالإفريقية. غزاهابعدذلكالعديدمن الأمم منبلدان البحر الأبيض المتوسط وخصوصا من مصر وأثيوبيا والجزيرة العربية والشرق الأوسط وآسيا الوسطى. وإلى يوم الناس هذا ، لم يتوفر لدينا أي دليل قاطع أن البربر والأمازيغ هم السكان الأوائل في شمال إفريقيا. فنحن خليط من الزنج والبربر والأمازيغ واللوبيين والفينيقيين والرومانوالوندال والعرب والأتراك. وكما قال الأستاذ أحمد ذياب لم يبق لنا كتاب أو سند واحد بلغات الأمم التي غزت بلادنا واستوطنتهاطوال مئات السنين .أما اللغة العربية فهي اللغة التي يكتبها ويقرأها شعبنا وهيالتي تجمع شملنا مع كل الشعوب الناطقين بها وذلك منذ القرن السابع ميلادي. و بما أننا من أولئك الذين يؤمنون بأن المعرفة لا تتطلب طلب العلمفحسب بل تفرض عليناقراءة التاريخ و إعادة قراءة التاريخ سوف نحاول البحث عن أصول اللغة العربية التي أصبحت لغتنا بقطع النظر عن أعراقنا. تنتمي اللغة العربية إلى أسرة اللغات السامية التي تنسب إلى سام ابن نوح عليه السلام كما جاء في التورات والإنجيل والقرآن. ومنذ القرن الثامن عشر ميلادي رتب اللغويونهذه الأسرة اللغوية لكل الشعوب التي سكنت قديما وتسكن الآن شبه الجزيرة العربية واليمن والحبشة وإريتريا وبلاد الشام والعراق وشمال إفريقيا. وتعتبر اللغة العربية أحدث اللغات السامية التي سبقتها عدة لغات منقرضة الآن مثل اللغة الأكادية والفينيقيةوالأوغاريتية والعمورية والكنعانية والآرامية والآشورية والبابلية والعبرية ..كما يرى أكثرالباحثينأناللغة الأمازيغيةتنحدر من أصولمشرقية عربية حميرية. وفي هذا الصدد قال ابن خلدون "إن الأمازيغ كنعانيون تبربروا، أي إن البربر هم أحفاد مازيغ بن كنعان مؤكدا أن الحق الذي لا ينبغي التعويل على غيره في شأنهم، إنهم من ولد كنعان بن حام بن نوح ...وأن اسم أبيهم مازيغ، وإخوتهم أركيش، وفلسطين إخوانهم بنو كسلوحيم بن مصرايم بن حام" . وعلى العموم يتفق اللغويون أن القديس الأمازيغي المشهور أوغسطينقال قديما "أن الأمازيغكنعانيو الأصل وإذا سُئل الفلاحون عن أصلهم قالوا: نحن كنعانيون ". و من هذا المنطلق لما غزا الفينيقيون شمال إفريقيا وأسسوا قرطاج لميجدواصعوبةفي التواصل والفهم مع الأمازيغ نظرا لانتماء اللغتين إلى حام بن نوح وبعد استيطان الرومان بشمال إفريقيا أتى الغزاة العرب المنحدرين من سام بن نوح ولما استقر الأمر بعد غزوهم لم يكنالتعريب صعبا لأن لغة السكان كانت أمازيغية وفينيقية المنحدرة من حام بن نوح أخسام بن نوح. وعلى العموم يرى جميل حمداوي "أن الأمازيغ يشتركون مع العرب في الأصل السامي الكنعاني وفي موطن الانحدار والانطلاق الذي يتمثل في شبه الجزيرة العربية". و إن اجتهدنا للتوضيح في هذا الشأن فذلك للقول أن اللغة العربية واللغة الأمازغية تشكلان ترابطا وأصولالغوية مشتركةعريقة لا شك فيها وأن اللغة العربيةتجمع شمل الشعوب الناطقة بهاكما تجمع اللغة الفرنسية مجموعة الدول الفرنكوفونية. لقد كانت اللغة الأمازيغية لغة يفهمهاوتتحدثها أغلبية قبائل شمال إفريقيالكنها تراجعت أمام اللغة الفينيقية بعدتأسيس قرطاج وأوج حضارتها في البحر الأبيض المتوسط والمحيط الأطلسي وحتى سواحل البرازيل . ويصبح الحديث عن تعميم اللغة الامازيغيةودسترتها اليوم في بلدان شمال إفريقيا أمراخطيراجدا لأن اللغة الأمازيغية ليست مؤهلة للتعليم والبحث العلمي الذي يوفر لنا التقدم والرقي المنشود. فنحن نقول أن الإلحاح للتخلي عن اللغة العربية اليوم لفائدة اللغة الأمازيغية يجعلنا أمام ضرورة مراجعة اختيارات مضى عليها خمسة عشر قرنا مهما اختلفنا في تقويم تلك الاختياراتوهذا أمر عسير وصعب المنال ، يحتاج منا بذل جهود نحن أحوج إليها في معارك بناء الدولة والقانون ومواجهة العولمة ومواصلة الترجمة والتعريب والبحث العلمي والعمل على انتماء ثقافي وحضاري ضمن الكتلة البشرية الناطقة باللغة العربية. و تصديقا لما نقوله أن الناطقين باللغة الأمازيغية حفظوا اللغة العربية وأبدعوا كتابتها واختاروها لغتهم الرسمية في العلوم والأدب والإدارة والشؤون الديبلوماسية كما حصل في عهد الدولتين الأمازيغيةالمرابطية 1056-1147م. والدولة الموحدية 1121-1269م. فلو كان للغة الأمازيغية مكانة في ذلك العهدلقررت هاتان الدولتان العظيمتان اعتماد اللغة الأمازيغية كلغة رسمية. نحن نمر بأزمة صعبة جدا، أزمة الهوية المنكسرة المتشتتة وإفقارلغوي وفكري رهيب وذلك من جراء منظومة تربوية لم تقرأ للهوية حسابا،وهي تخلو من تعليم التراث المشترك الافريقي والأمازيغي والفينيقي والإغريقي والروماني والعثماني. منظومة تربوية تأسست تحت رعاية المنظمة العربية للتربية والثقافة والتعليم (ألكسو) وتحت رعاية المنظمة الإسلامية للتربية والثقافة والعلوم (إيسسكو) التي تخضع كل منهما لمنظمة الأممالمتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو) والاتحاد الأوروبي وهذه المنظمات هي التي تأمر بصياغة وثائق المرجعية لوزارة التربية والتعليم في كل من البلاد العربية الإسلامية. والنتيجة واضحة شفافة: فرض مدرسةلا تضمن الذكاء والتفكير. في العالم العربي يكسب الطفل بين الثالثة والسادسة سنة ثلاثة آلاف كلمة أغلبها من اللغة العربية العامية وبعضا من الكلمات الفرنسية أو البريطانية أو الاسبانية حسب البلد العربيبينما يمتلك الطفل في نفس السن ستة عشرة ألف كلمة في البلدان الأوروبية والأمريكية. فكيف نفسر هذه الظاهرة ؟عندما أصبحت الدولة العثمانية الإسلامية في أوج قوتها تسيطر إلى أواخر القرن التاسع عشر ميلادي على ثلاث قارات الافريقية والآسيوية والأوروبية، تساءلت فرنسا وبريطانيا عن أسباب تفوق المسلمين و سيطرتهم على العالم، وضمن كتاب عنوانه الإسلام الثوريللكاتب جايسنقامت فرنسا وبريطانيابدراسة حول هذا التفوق تأكد أنه كان مرتبطا بحفظ القرآن كاملا في الكُتاب للأطفال بين السن الثالثة والسادسة.لأن القرآن علاوة على أنهكلام الله فهو موسوعة لغوية عربية تحتوي علىسبعة وسبعين ألفا وأربع مائة وتسع وثلاثين كلمة. وبعد حفظ القرآن يحفظ الطفل ألفية بن مالك في النحو والصرف بين السنة السادسة والسابعة وهذا الكم من الرصيد اللغوي يخول للطفل قدرة جبارة للتفكير، فقررت فرنسا وبريطانيا تدمير الكُتاب في كل الأوطان العربية وأقرت فرنسا اللغة الفرنسية كلغة رسمية في الجزائر وأغلقت المساجد ومنعت تعليم اللغة العربية، إذأن الكُتابكان الفضاء الذي يسمح للطفل ممارسة التجارب الثقافية واللغوية والاكتشاف المستمر وهو يلعب، وتؤكد الدراسات العلمية اليوم أن مثل هذا المنهجيضمن للطفل الذكاء وملاحظة العالم وفهم البعد الزماني والفضائي والتفكير المجرد والتفكير الرمزي لاستيعاب الرياضيات والتحليل المقارن وذلك فضلا على الكم الهائل من الكلماتالذي يتجاوز حوالي مائة ألف كلمة، بينما تضمن المدرسة اليوم للطفل حفظ خمسين مفردة في السنة فقط.كان الكُتابفضاء للأطفالللمرح واللعب والاكتشاف المستمر في أمان فيما بينهمدون أي تدريس أو فرض تمارين لكن المطلوب من الأطفال التركيز لمدةربع ساعة في اليوم لحفظ سورة قرآنية أو شعر أو نحو أو صرف أوموعظة أو حكاية أو أمثال وبهذه الطريقة يستطيع الطفل اكتساب مائة ألف مفردة في السنة، أماتطبيق برامج التعليم المقترحة أي المفروضة في مدارسنا اليوممن قبل اليونسكو والاتحاد الأوروبي والتي لا تطبق في المدارس الأوروبية والأمريكية ، فهي لا تسمح للطفل في بلادنا إلا اكتساب خمسين مفردةفي السنة، فلا يمكن للطفل بهذا العدد القليل من المفردات أنيكتسب كما قلنا التفكير المجرد والرمزي والتحليل المقارن لاستيعاب الرياضيات وفهم البعد الفضائي والزماني ومعرفة العالم والطفل الذي لا يعرف العالم لا يحب وطنه وظاهرة الفرار من أوطاننا ناتجة عن عدم معرفة العالم. قلنا أننا نمر بأزمة الهوية في بلادنا وقاموس المعاني يشرح الأزمةكمرحلة يشتد فيها الصراع إلى درجة يتحتم فيها الوصول إلى حل حاسم. والركن الأساسي للهوية هي اللغة وكما قلنا اللغة العربية ليست لغة العرب إنما هي اللغة الواضحة المبينة وليست لغة عرقية ولا إقليمية ومن تكلمها أصبح عربي اللغة وبما أن اللغة هي أساس الهوية، يحتم علينا واجبنا أن نتقنها ونعمل على صيانتهاونرعاها.ولا نستعمل في حديثنا لغة عوضها. وبقدر ما نرفع من شأنها تقوى هويتنا وترتقي بنا إلى الحداثة والعزة بين الأمم. هنالك أمر لا بد من ذكره أن اللغة العربية لغة منطقية، أركانها النحو والصرف والإعراب والعروض ومنأتقنها وحفظ أكثر عدد ممكنمن مفرداتها تمكن من التمتع بمَلَكة قادرة على الخيالوالابداع والابتكار والاختراع وهذا ما يفسر أن اللغة العربية كانت لسان العلوم لأوائل العلماء في العالممن القرن الثامن إلى القرن الرابععشر بقطع النظر على أصولهم العرقية. كلهم حفظوا القرآن الذي يحتوي على سبعة وسبعين ألفا وأربع مائة وتسع وثلاثين كلمة إضافة إلى ألفية بن مالك في النحو والصرف والشعر الجاهلي. كيف الوصول إلى اكتساب الذات من جديد والرفع من شأننا والاعتزاز بماضينا والاطلاع على ما قدمته لغتنا العربية للبشرية من علوم لارتقاء الانسان إلى ما هو أفضل؟ وأخيرا نقترح إعادة النظر في المنظومة التربوية وتحريرها من هيمنة المنظمات الدولية حتى يرتقي عدد الكلمات عند الطفل في بلادنا إلى ستة عشرة ألف كلمة بين السن الثالثة والسادسةوإعادة قراءة التاريخ واجب ضروري لفرز الغث والسمين من المعرفة الموروثة عن أسلافنا. والالتزام بتعليم التراث المشترك يرفع من مستوانا ويربط حاضرنا بماضينا الذي ساهم في تقدم الإنسانية. أما الترجمة والبحث العلمي فهما من أعمدة ضرورية لتحقيق الحداثة والتقدم المساهمة في أخذ القرار على الصعيد الدولي. ولا بد لنا من إنشاء مؤسسة موازية لبيت الحكمة تجمع المختصين الذين هم قادرون على فرض منظومة تربوية رفيعة تؤهلنا على أخذ القرار على الصعيد الدولي.