عندما أقدمت على تأليف كتابي " إسبانيا من الدكتاتورية إلى الديمقراطية " وبإلهام أضفت " أمثولة وقدوة " صدقتني الأحداث والأيام ، وبقي التحوّل الإسباني من الدكتاتورية إلى الديمقراطية أمثولة ، وصار مادة تحليل ودراسة من كبار المختصين في العالم ، لشرح وفهم كيف يُنْجز المستحيل. كانت إسبانيا قد مرّت وتمرّ بمراحل مشابهة لما كانت تمرّ به وتخضع له بلادي الصغيرة ، والكبيرة أيضا ، من ظلم وجور، وانعدام حريات ، وغياب عدالة ومساواة ، وتراكم السلطات والثروات، والتحكم في المال والعباد ، بيد فريدة ، وشلة قليلة تعبث وتبعثر. أوضاع عديمة الراحة النفسية والفكرية والمادية ، جعلت البلاد ، كما قلت في المقدّمة ، " على فوهة بركان". كما أقررت ، حسب شيخ المستعربين الإسبان ، الدكتور بيدرو مارتيناث مونتابث ، الذي تكرّم آنذاك بمقدّمة للكتاب ، " بأنّ ما دفعني للكتابة هو أنّ مشاهد التّحوّل الإسباني ، وما اتصف به ، خصوصا من سرعة ومرونة ، أوحت له (أي لي) بأفكار، ودفعته إلى مقارنات فرضت عليه " التفكير في ما تمرّ به بلادنا العربية من أقصاها إلى أقصاها ، وما هي في حاجة إليه من تغيير نظم ، وإبدال أساليب ، واتباع طرق ، واكتساب أخلاق ، تبعثها من رقادها ، وترمي بها متيقظة متحدة ، في حلبة سباق الزّمن الذي لا يرحم ، فتستعيد مكانتها ، وتمسح كرامتها ممّا لوّثتها به الأيام. " كنت واعتدت ، وأنا أجوب أرض الله وبلدانها ، أشاهد وأسجل وأقارن بين ما ينجز ويحقق لدى الآخرين ، وبما ينجز لدينا ، مؤمنا بيقين بأن شعوبنا ، أو على الأقل شعبنا التونسي الذي أنا منه وإليه ، وأعرفه على حقيقته – هكذا كنت أظن – وأعرف درجة نضجه وتحضّره وتكوينه السياسي ، وما هو قادر عليه. نعم كنت أقارن وأتباها أحيانا ، بينما زميلي وصديقي الحميم ، الصحفي القدير المخضرم ، المصري الليبي ، المهدي يوسف كاجيجي ، الذي أدار، عن جدارة ونجاح ، رئاسة تحرير صحيفة الحرية بطرابلس ليبيا ، لا ينفك ينبّهني قائلا: " لا تقارن يا هذا ، فالمسألة جينات." دارت الأيام ، وانتفض الشعب التونسي ، وبعده شعوب المنطقة ، فكبّرت وهلّلت ، وانتظرت فطال انتظاري ، فهدأ حماسي ، ثمّ راجعتُ نفسي فعاتبتها ، واعترفت بخطئي ومن اعترف بذنبه لا ذنب عليه. تذكرت صنيعي هذا لأن المرء مهما بعد وغاب ، وتغيّرت طباعه وحياته ، ومهما انتقد وغضب ، ولام وعاتب بلاده وذويه ، ففي أعماقه دوما محبة وتقدير ، وهو دوما طعمة للشوق والحنين. ألم يقل الشاعر: زعموا سلوتك ليتهم نسبوا إليّ الممكنا * فالمرء قد ينسى المسيء المعتدي والمحسنا * والخمر والحسناء والوتر المرنّح والغنا * لكنّه مهما سلا هيهات يسلو الموطنا *. هيهات هيهات ! لم اسلُ ، ولم أنسَ ، ولكن خاب ظنّي ، وضاع أملي ، واهتزت ثمّ ضاعت ثقتي في أناس كنت على يقين بأنهم ليسوا عديمي الصفات التي تحلّى بها صانعوا التحوّل الإسباني المثالي السريع ، صنعوه وأتقنوا الصّنع وأجادوا فنجحوا ، رغم اختلافاتهم وخلافاتهم كي لا أقول عداواتهم ، رغم ضحاياهم ودمائهم التي سالت هدرا ، رغم جراحهم التي لم تلتئم ، لكنهم فضلوا تهميش المآسي ، ولو لحين ، وبلوغ ما كانت تصبو له غالبية " الشعوب" التي تتكوّن منها إسبانيا من تفاهم ووفاق وعدالة ومساواة وأمن ، كي يعملوا جميعا لإنقاذ الوطن وإعادته إلى حضيرة الأمم المتقدّمة ، وبعدها قد تأتي المحاسبة وفصل الأمور. تشرع إسبانيا هذه الأيام في الاستعداد لإحياء الذكرى الأربعين لميلاد دستورها الثالث، وهو الأول الذي جاء دستور إسبانيا بأكملها ، دستور كل الإسبان ، دستور العبرة بالماضي وبناء الحاضر والاستعداد للمستقبل. أربعون سنة مرّت على إعلانه الذي كسّر القيود ، فاندفعت إسبانيا قوّة واحدة ، وطموحا واحدا ، وهدفا واحدا ، فبلغته وأكثر، فاقت منجزاتها كلّ تكهّن وتقدير، رغم الحواجز والمشاكل والصّعاب والعراقيل الكامنة في الجسم والهيكل الإسباني نفسه ، كتعدّد الأصول العرقية ، والثقافات الخصوصيّة ، واللغات القومية ، والكيانات التاريخية ، علاوة على العداوات الحالية ، والميولات السياسيّة والعقائدية ، التي اعتبرتها إسبانيا بأكملها ، مسائل كلها ثاناوية ، تأتي بعد استرجاع الشعب – الشعوب – الإسبانية صوتها وحريتها وتقرير مصيرها. ثلاث مؤسسات رئيسيّة ستشرف على هذا التكريم وهي مجلس النواب ، ومجلس الشيوخ ، والحكومة التنفيذة. قدّم الرّؤساء الثلاثة أهمّ البرامج وفحواها ، معبّرا كلّ منهم عمّا يعنيه الدستور، وما نتج عنه وعن تطبيقه من تقدّم وإنجازات. قالت رئيسة مجلس النواب " إن إحياء ذكرى الدستور، هو الاحتفال بمصالحتنا ، بحرّيّتنا ، بتقدّمنا. أمكننا المرور بهذا الدّرب ، بفضل زعماء كرام ، ومجموع الإسبان الذين فضلوا الوفاق ، وعرفوا كيف يضعون تعايشنا فوق المصالح السياسيّة أو العقائدية. يشرفنا اليوم ، إحياء هذه الذكرى ، مراهنين على الدستور، كما قرّر الشعب المراهنة عليه ، وعلى إسبانيا الحقوق ، إسبانيا الحرّيّة ، إسبانيا الرفاهية ، والنمو ، إسبانيا التعدّدية السياسية الإجتماعية الثقافية. أمكن كلّ هذا بفضل كرم الكثيرين ، وما نجاح الأربعين سنة إلا نجاح الجميع . إن تطوّر إسبانيا خلال هذه الأربعين سنة ، لا يمكن نكرانه ، وقد أمكن إنجازه لأنّ الجميع فضّل الديمقراطية ودولة القانون." أمّا رئيس مجلس الشيوخ فهو يقول:" ليس ثمّة أحسن تكريم نستطيع تقديمه لدستورنا ، وروح دستورنا ، سوى حمايته واحترامه قدر الإمكان ، تماشيا مع توطيد الدّور السياسي ودور ووظائف البرلمان بمجلسيه." ويختم رئيس الحكومة التقديم بقوله:" إن إسبانيا أسرعت كي تكون ديمقراطية كاملة مكتملة ، وأمكن ذلك بفضل التأييد المدهش من جانب أغلبية المواطنين ، من أعضاء مجلس النواب آنذاك ، وخاصّة من واضعي الدستور. إن ذلك لم يكن واجبا سهلا ، فيليق بنا ، مع فارق الزمن ، أن نكون قادرين على تقييم ذلك ، كي نشرح للأجيال التالية ، كلّ ما أمكن بناؤه انطلاقا من سلطة الكلمة والميل للاتفاق. كان ذلك درس كرم لا نزال إلى اليوم نتعلّم منه. إننا نكرم اليوم أكثر من نصّ قانوني ، فنحن نكرم إطارا مكّننا من التفاهم انطلاقا من التعدّدية فشجع التعايش. لأن الدستور يسمح باكتشاف طرق اتفاق ، ويسمح بتحقيق توافقات كبرى ، فما دمنا قادرين على الحوار، سنتفاهم انطلاقا من الكرم ، وهروبا من الشخصنة. إن الحوار هو أيضا احتلال المستقبل ، والدستور يُشرَّف ويُكرَم بتطبيقه وجعله يؤدّي دوره الذي وضع من أجله." أربعة عقود مضت ، ولم ينس أحد أولائك الذين صنعوا التحوّل ، أكثرهم قد توفّاه الأجل ، لكنهم باقون ، ما بقي ما صنعوه وما نتج عمّا صنعوه. سعدت بمعرفة الكثيرين منهم ، جلست إليهم وحاورتهم وسألتهم ، فتعلّمت ، أقولها بكلّ صدق وتواضع ، تعلمّت باكتشاف إمكانيات الكلمة وقوّة العبارة. بادرتني آنذاك ، كلمات الله سبحانه مثل: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ ، وجادلهم بالتي هي أحسن وما إلى ذلك ممّا ننساه ولا نعمل به. حضرني ويحضرني الكثير ممّا في ديننا وثقافتنا وتقاليدنا وتربيتنا – التي كانت على الأقل – من توجيه وتوصيات ونصائح ملخّصها التسامح والكلمة الحسنة. كلّ هذا جعلني دائما ثابت وقويّ الثقة في مواطنيّ لكن : وما أوتيتم من العلم إلا قليلا. أربعون سنة مضت وهاهم سياسيون مسؤولون ، رغم ما يُعرف عن السياسيين من أنانية وعدم اعتراف بفضل للنظير أو المنافس ، يعترفون ويكرّر كلٌّ منهم ويصف عمل وتصرّف صانعي التحوّل بالكرم ، لأنّ ما آتاه كلّ امرئ آنذاك ، ما هو إلاّ كرم وجود يدل البخل والأنانية والتقوقع في عقيدة شخصية أو مبدئ مهما اعتُبِرت مزاياه. هذا وأكثر منه كنت منتظره من مواطنين آمنت بأنّهم لا يعدمون شيئا ممّا لدى الآخرين ، ظننتهم ، في بعض الأحيان والحالات ، أحسن صفات وأجود تكوين من الكثيرين الذي لاقيت وعرفت ، لكن صدق أخي المهدي فالمسألة " جنات " أو قل هي ثقافة شاعت وترسخت طوال نصف قرن. مهما كانت التسمية فتجسيم واقعها في ما عليه البلاد وشعبها ، وما يشكوه الخاص والعام ، وما يصيب التركيبة الإجتماعية الإقتصادية من تغيير خطر مشين ، يرمي إلى تقليص الشريحة الإجتماعية الوسطى وهذا لا يبشر بخير ولا يبعث أملا. قد يقول قائل إن وضعنا أحسن وضع بين كل البلدان التي قامت بما قمنا به ! قد يكون ! لكن إذا أراد المرء المقارنة فلا بد أن تكون معطيات ومكوّنات وظروف المُفارَنين واحدة ، وكما قلت في غير هذا المكان ، أحسن مقارنة وأصدقها هي مقارنة الشيء بنفسه. فإذا أردنا الحكم على بلد ما بالمقارنة ، فلنقارنه بما هو عليه ، وما كان يمكن أن يكون عليه. هكذا يظهر ما كان بالإمكان ولم يُعتَبَر، وتسطع الأخطاء والنقائص وربما أسبابها أيضا. كأنّي ، بلا إرادة أو سابق تخطيط ، قمت بما يشبه هذه المقارنة ، فتأكدت الآن ، بعد سبع سنوات ، أني كنت أحلم لا أحكم ، فأخطأت في حكمي فمعذرة. مدريد 10 – 9 – 2018