إنّ أول ما يلاحظه المتتبّع مسيرتنا وأعمالنا وتصرّفاتنا ، ميزةً بارزةً واضحة ، هي محاكاتنا الآخرين ، خاصّة منهم جيراننا في الشمال. الغريب والمؤسف في الأمر، هو أننا لا نحاكي إلا السفاسف والسطحيات ، ونترك ، إن عمدا أو سهوا أو جهلا ، ما جعل الذين اتُّبِعوا ، في ما هم فيه من ترف ورقيّ ، يحلم به ضعاف الحال والعقل منّا، ومن شبابنا خاصّة ، فإذاهي المغامرة منهم على غيرهدى كثيرا ما تؤدّي إلى الحتف. لندع تلك المآسي وأسبابها ومَن وراءها والمستفيدين منها ، ولنعد لمحاكاتنا غيرنا – والمحاكاة غبن وضعف وجهل وفناء – فتغرينا المقارنة ، لكنها غير جائزة ولا ممكنة لأنها ، إن أجريت ، أضلت نتائجُها وأخطأت أحكامُها. لماذا ؟ لأنها تستوجب شروطا صعبة التّوفّر لعدم ، بل لاستحالة توفرها بالشكل الذي تستوجبه المقارنة. فالشرط الأول مثلا ، هو تساوي كلّ المعطيات والعناصر والمكوّنات والظروف وغيرها لدى كلا المقارَنين. فلو قارنا بين بلدين مثلا ، لابدّ أن تكون لهما نفس المساحة وعدد السكان والمناخ والثروة المادية والبشرية والظرف أو الظروف التي يمُرّان بها إلى ما لا نهاية له من تلك المطلوبات ، فيستحيل توفّرها فلا تصحّ المقارنة ، وإن هي أجريت فأحكامها باطلة ونتائجها مضلّة. ما العمل إذن ؟ مقارنة الشيئ بنفسه. كأن نقول: نقارن تونس بما هي عليه وما كان يمكن أن تكون عليه. ليس هذا ما سنقوم به الآن في هذا الحديث ، وسنستبدله بطريقة أخرى ، نعدّد فيها الخطوات التي قام بها شعب فأعطته نتيجة مرضية أو أحسن من مرضية ، ونرى غيره يمرّ من نفس تجربة الأول ، وكيف تصرّف أو لماذا لم يتصرّف كالأوّل ، عسانا نفهم الموانع ونبحث فنجد أسبابها. بما أني بإسبانيا وخبرت التجربة الإسبانية المثلى ، وعشت كلّ مراحل تحولها من الدكتاتورية إلى الديمقراطية طوال الأربعة عقود ، وأعيش الآن تجربتها الحالية وهي تخلّصها من هيمنة نظام الحزبين ، وتجربة فترسيخ تعدّد الأحزاب ، وغياب الأغلبية المطلقة في مجلس النواب ، ومن ثَمَّ وجوب التشاور والتحاور، والمطالبة والتنازل ، وأين وكيف تكمن المصلحة الوطنية العمومية ، وإبعاد أو تهميش المصلحة الحزبية ، أو إرجاؤها على الأقل. عندما مات الدكتاتور وشُرع في تغيير النظام وإرساء بديل ديمقراطي ، كانت البلاد تواجه مقاطعة كلّ البلدان المجاورة ، وكثير من غيرها في معظم مجالات التبادل. كانت تقاسي جفافا استمرّ نصف عقد ويزيد. تحرّك منتجو النفط فحصلوا على ارتفاع سعره بأكثر من الضعف. أمّا في الداخل فالقوات المسلحة ، بوزاراتها الثلاث، تقف حارسا يريد ويسهر على الاستمرارية ، وبقاء تركة الدكتاتور الفقيد كما تركها "مربوطة وثيقة الرباط" - حسب عبارته الشهيرة -. إضافة لذلك ، حزب يميني رئيسه عضو بالبرلمان يعمل هو الآخر لبقاء الدار على حالها. منظمتان إرهابيتان ، الأولى قديمة يسارية انفصالية والثانية حديثة يمينية متطرفة ، تسدّد ضرباتهما فتكاد تكون يومية ، حتّى قُدِّرت ضحاياها خلال الخمس سنوات الأولى بما يقارب سبع مائة ضحية. هناك الكثير غير هذه من كبريات المشاكل ، يضيق المقام عن ذكرها ، فلنقتصر إذن على رسم صورة الوضع باختصار: عزلة ، أزمة اقتصادية حادة ، خطر الانقلاب ، إرهاب يستفز العسكر، وأحزاب مبادؤها متضاربة. من أين نبدأ إذن؟ من حيث بدأ الذين حاولوا فنجحوا ، من العمل على جبهات ثلاث: أولا من القانون إلى القانون ، ثانيا وحدة الصف ، وثاثا مصلحة الوطن هي العليا. وماذا عن الخلافات وتضارب المبادئ والاتجاهات والمحاسبة عن اعتداءات الماضي القريب وغيرها ؟ توضع على الرّف حتى يتبيّن الخيط الأبيض من الخط الأسود من المسيرة، فوضعت وهُمّشت ولم تطرح إلا الآن بعد أربعين سنة أي بعد أن ضربت الديمقراطية عروقها ، وجاء جيل ولد بين أحضانها قلم يعرف الدكتاتورية ولا مآسيها. عند الشروع في التنفيذ ، وكان سريعا ، تحولت الجبهة الثالثة – مصلحة الوطن - إلى المرتبة الأولى ، وكي تضمن سلامتها ، وجب العمل على جانبين: سياسي واقتصادي. النجاح في الجانب الأول موقوف على وحدة الصف فتحقق ذلك عن طريق التنسيق الديمقراطي ، هيئة أو جمعية أو اتحاد (مؤقت) جمع بين معظم الهيئات السياسية التي عارضت الدكتاتورية : الجمعية السباسية الإسبانية والحزب الشيوعي – الشيطان الرجيم لدى النظام الزائل وأنصاره - والحزب الاستراكي العمالي ، والاشتراكي الشعبي ، وأربعة أحزاب أخرى والاتحادان النقابيان الاشتراكي والشيوعي ، وكبار الشخصيات ذات النفوذ ، ونشطاء مستقلون ، فأصبح مجمل المعارضة التي عملت سرا وعلانية ضد الدكتاتورية كتلة موحدة – رغم ما بينها من تباين وعداء أحيانا -، تتعاون مع الحكومة لتحقيق التحول وإرساء الديمقراطية. بقي الجانب الاقتصادي ومجابهة أزمته الحادة ، فكانت معاهدات مونكلووا وهي الاتفاق الجماعي الذي غيّر وجه إسبانيا, اتفاق شارك في الوصول إليه جميع الأحزاب السياسية والهيئات المدنية والنقابات العمالية واتحاد كبار وصغار رجال الأعمال وعدد من المستقلين وأخصّائيي القانون ، فكان الاتفاق. هما في الواقع اتفاقان ، أولهما حول برنامج إصلاح وتقوية قطاع الاقتصاد ، وثانيهما حول برنامج قانوني سياسي ، فأصبحت إسبانيا بذلك نموذجا عالميا للحوار والتعايش الديمقراطي ، بين كل القوى السياسية والإقليمية بما فيها التيار الوطني الباسكي والقطلاني. هذا الوئام ووحدة الصف مكّن إسبانيا من اتخاذ الطريق والسير نحو التقدم والتمدن ، فالانضمام إلى الاتحاد الأوربي والتمتع بأطول مرحلة ازدهار وطمأنينة في تاريخها. هذا مثال تجربة يمكن معادلته بغيره ، لتبيّن الفوارق في المعطيات والنتائج. فلنأخذ تونس مثلا! ماذا فعلت وكيف جابهت وضعها ؟ لا أراني كفءا ، وأنا البعيد الغريب ، لدخول مثل هذه المغامرة ، بينما ملامح نتائجها تكاد تُخمد الأنفاس – وما مثل قرطاج 1و2 ببعيد - فأترك إذن لكلّ قارئ – إن شاء – أن يجمع العناصر والمعطيات ، وليستخرج النتائج ثمّ يعادل. أما أنا فأقول له بكلّ صدق: كان الله في عونك ومنحك القوة أمام صدمة ما ستكتشفه.