أرسلت مقالي عن الكتاب والكتابة من مالقة ، المدينة الأندلسية التي لها علاقات وروابط قديمة متشعبة مع تونس ليس أقلها العائلات العريقة التي لا تزال تحمل نسبتها إليها أذكر منها ، على سبيل المثال لا الحصر، عائلة المالقي التي برز منها كثيرون في مجال العلم والدين ، منهم المشائخ صالح المالقي ومحمد المالقي وعبد الحميد المالقي الذي سعدت به صديقا وزميلا بالإذاعة التونسية في أواخر أربعينات القرن الماضي ثم تولى ولاية تونس الكبرى بعد الاستقلال. ولاية مالقة مصنفة اليوم كمنطقة أحسن نوعية عيش في أوربا ، لها قرى كثرة لا تزال بطابعها الأندلسي القديم ، خاصّة قرى دائرة الشرقية التي لها ، منذ عام 1988 وبمبادرة أحد نوابها بالبرلمان السيد أنطونيو غومث، عملتها الخاصّة ، أوراقا ونقودا، استوحاها من العهد العربي ، لما قرّر الزغل منح الدائرة حق ضرب عملتها (1480-1490) ، وقصد من ورائها تمتين الروابط بين مختلف سكان الدّائرة. سميت العملة الحالية " الشّرقُ " لها ثمنها إذ هي من الفضة ، أعلى قطعة منها وزنها 20 غ. تساوي 20 أورو ، وأخرى 10غ. تعادل 10 أورو، ثمّ تأتي الصغرى ذات 4غ. تسمّى تصغيرا "الشرقيُّ". من أشهر مدن الولاية مدينة رُنْدا التي أنجبت الشاعر الشهيرصاحب مرثية الأندلس التي يقول فيها: لكلّ شيء إذا ما تمّ نقصان فلا يغرّ بطيب العيش إنسان هي الأمور كما شاهدتها دول من سرّه زمن ساءته أزمان وهذه الدّار لا تبقي على أحد ولا يدوم على حال لها شان بعرف الجميع ، أو الأغلبية هذه المرثيّة المثيرة البليغة ، رثاء الأندلس ، التي نظمها أبو البقاء الرّندي ، اسمه الكامل هو صالح بن يزيد بن الحسن أبو الطيب وابو البقاء النفزي الرّندي . كان من مشاهير القضاة ، عالما بالحساب والفرائض . جميعنا ، أو أغلبنا ، يحفظ قصيدته الغراء المحزنة عن ظهر قلب ، وإن لم يحفظها ، فهو محتفظ بها بين رصيده التذكاري الثمين. لا لقيمتها الفنيّة الشعريّة ، وبلاغتها وما حوته من حِكَم فحسب ، بل ايضا لتَطابُق فحواها مع ما نحن فيه ونقاسيه ، حتى أننا ، لو غيّرنا أسماء الماضي بأسماء الحاضر ، لظنّ القارئ أنها كتبت اليوم. لو حذفنا قرطبة ووضعنا بغداد ، وأبدلنا بلنسية بدمشق ، وجيان بغزّة ، ثمّ وضعنا عليها توقيع شاعر معاصر ، لانطلت الحيلة . لست فاعلا ذلك ، ولو أن بي رغبة شديدة لفعله. سأخمد رغبتي إذن ، وأستجيب لما دفعني لذكر القصيدة ، وما الدافع إلا انتماء مؤلفها الشاعر للمدينة التي قصدتها بعد إرسال مقالي ، وهي مدينة حصينة ، تربّعت فوق قمّة جبل وعر، فأطلت على سهول وطبيعة من تلك التي أنعم الله بها على أرض الأندلس. مدينة رُنْدا هذه ، ككثيرات غيرها ، قديمة الأصول ، بدأت تعرف في العصر الحجري ثم صارت مجمعا بشريا إيبيريا ، تمركز فيه الرومان ، ثم الغوطيون إلى أن فتحها المسلمون سنة 713 م ، وكان الفاتح هو القائد البربري – الأمازيغي بلغة اليوم - زائد بن قصادي السبسكي . منذ ذلك العهد ، تطورت المستعمرة فأصبحت مدينة تسمى حصن رُنْدا. عرفت المدينة إذن تطورا جعل منها حاضرة ، حيث شيّدت المعالم أشهرها القلعة القائمة الى اليوم. وعندما أخذ المسلمون الأندلسيون في التشتت وتبعثرت كلمتهم ، فظهر ما عرف بملوك الطوائف ، لم تشذّ رندا ، فأصبحت هي أيضا مملكة تحت إمرة بني إفران الأمازيغيّين. كان زعيمهم يدعى أبو نور هلال بن أبي قرة ، الذي عرفت رندا في عهده حضارتها وازدهارها ، ومعظم معالم المدينة شيدت في عهده. خلفه ابنه أبو نصر الذي مات مقتولا ، فآل أمر رندة إلى المعتمد بن عباد ملك إشبيليا. ذكرت هذه النبذة من قصة هذه المدينة بالذات ، لأن مشيّديها بربر ، أي أمازيغ ، لكن لا نَعَتَهم غيرهم بذلك ، ولا تبجّحوا هم بنسبهم ، بل تصرّف الجميع وتصرّفوا هم من جانبهم ، على أنهم مسلمون أندلسيّون ، لا فرق بينهم وبين غيرهم إلا بالتقوى والعمل الصالح. عمل أتوا منه بالكثير ، لا في رندا فحسب ، بل في بقاع كثيرة أخرى كمشاركتهم ، تحت قيادة محمد الأول ، في تاسيس مدينة مدريد ، التي لا أزال أعتقد أنّ أصل اسمها "مجريت" أمازيغي ، أو كتعميرهم وتطويرهم منطقة بشارات التابعة لغرناطة ، ثم ثورتهم فيها ضدّ التنصير. هكذا كان الحال من يوم أن أسلم الشمال الإفريقي . أمة واحدة بشعوب مختلفة ، وثقافات عديدة ، تجلت لا في اللغة فحسب ، بل في الكثير من المظاهر الإجتماعية كاللباس والطعام وعادات الأفراح والأحزان ، وغير هذا كثير ، حافظت عليه الشعوب المُكوَّنة منها الفسيفساء العرقية المغاربية ، دون تمييز ، ولا تبجّح ، ولا حرج ، ولا تضييق ، حتى صعب التمييز بين ملامح هذه الثقافة أو تلك. فما لنا اليوم نبرز هذه العناصر الثقافية التاريخية الأصيلة ، فنجعل منها وسائل تفرقة وتشتّت ، بعد أن كانت علامة التحام واتحاد ، وعامل إثراء وقوّة ؟ أبتهل بكلّ صدق أن لا يكون هذا الصّنيع استجابة لإشارات خارجية ، لأن الآخر عمل ويعمل على تفرقتنا . حاول ذلك أيام الإستعمار المباشر ففشل ، وسيفشل الآن ايضا لأننا كالبنيان المرصوص يشدّ بعضه بعضا. تاه بيَ القلم الذي أصبح اليوم لمسات مربعة لا حاجة لها بالمداد ، لكنها تتيه هي الأخرى أو يتيه الكاتب بها كما يفعل بالقلم ، فكدت أنسى ما دفع بي للحديث عن هذه المدينة. قلت أني جئتها بعد أن أرسلت مقالي الكتاب والكتابة وتمنيت أني لم أفعل ، لأني رأيت ، وأنا أتجول في شوارعها المؤنسة ، وأشاهد متمتعا آثارها الناطقة بتاريخ طويل ثري ، منظرا عجيبا جميلا مسرا ملهما ، لم أتمالك عن التقاط صورة منه أرفقها بكل سرور بهذه الأسطر، حتى يشاهدها من سيشرّف ما أنا كاتب بالقراءة ، وإني على يقين من أنه سيتمعّنها ويتبصّر معناها أو معانيها التي توحي بها ، لأنها تلقائية طبيعية ، سرقت ، أعني التقطت دون استشارة أو استئذان ، فهي على طبيعتها وبراءتها ، تبث الكثيرمن معان ودروس. طفل وطفلة ، لا يتجاوز سنهما الحادية عشرة ، يختليان بكتاب ضخم ، في ظل ظليل ، بعيد عن حرّ الصيف ولهيب شمسه ، ليجلسا بباب أثر من آثار ماضي بلدتهما ، ليطالعا ويناقشا ، فانغمسا حتى أنهما لم يشعرا أو يلتفتا لهذا الفضولي الذي التقط منهما صورة ، كما لو كانا تمثالا وأثرا من الآثار الكثيرة حولهما. مشهد غريب مثير، في بلد يتذمر ويشكو من قلة القراء والعزوف عن المطالعة ، رغم أن بعض مدنه لها يوم سنوي هو عيد الحب والمحبين فلا هدية سوى كتاب ووردة. ورغم أن مانشر فيه سنة 2016 ، مثلا ، بلغ 81391 عنوانا ، يطبع من كلّ عنوان معدّل 3530 نسخة. طفلان يختليان للمطالعة "العلمية" لأن الكلمات القليلة التي استطاع سمعى "المعنّى" التقاطها لها صلة بالتاريخ والأرقام ، بينما أترابهما يجرون وراء كرة ، أو يقذفون الطيور والحمام بالحجارة ، أو يحنون الرؤوس على الهاتف المحمول ، تائهين في ما يغريهم ويلهيهم به من ألعاب أو صور متنقلة أو ضوضاء يسمونها موسيقى. طفلان شذا عن أترابهما وعن الكبار أيضا ، حيث هما وفي بقاع كثيرة أخرى. التقطت لهما صورة بينما يحق أن يقام لهما تمثال. إنّ هذين الطفلين ، في وضعيتهما واهتمامهما ، إن دلاّ على شيء فإنما يدلاّن على ما يعنيه مثلنا الشعبي القائل:" ما زال خير في الدنيا". نعم لا يزال في دنيانا خير بشرط أن لا نياس ، ونثبت فلا نستسلم ، لأن القراءة ولو قلَّت فهي غير زائلة ، والكتاب سيحيى ولو تغير شكله. بعدت كثيرا وطويلا عن أرض الوطن. فهل ، لو تجوّلت في شوارعه ودروبه ، سأعثر على مثل ما شاهدت بمدينة رندا ؟ ما ذلك على الله بعزيز. مدريد في 30-8-2018