لقد وقع بين يديّ منذ أمد ديوان صادر عن دار "لسان العرب" بيروت للشاعر عبد العزيز محي الدين خوجة المولود بمكة المكرمة سنة 1940 والمتحصل على شهادة الدكتوراه في الكيمياء. (لقد شغل خطة سفير خاص بالمغرب الأقصى مرّتين في 1996 إلى 2004 ثمّ منذ 2016، كما تحمّل مهام وزارة الثقافة من 2009 إلى 2014). يحمل هذا الديوان عنوانا عذبا ومرهفا في آن " عذاب البوح " أهداه إلى "زمن الأماني ". وقد شدّني فيما شدّني في هذا السفر القصيد الأخير " السدّ الجريح " لما بدا لي من أوّل وهلة ما يشبه تواتر الأفكار وتقارب الأنغام مع قصيدة "الصباح الجديد" لأبي القاسم الشابي. وعلى الرغم من تباين الأوزان إذ أنّ الصباح الجديد" من مجزوء المتدارك و" السدّ الجريح " في نمط الرباعيات، فإنّ المقطوعتين لهما حسب تقديري نفس الإيقاع ونفس الموسيقى. اسْكُني يا جِراحْ واسْكُتي يا شُجُونْ ماتَ عَهْدُ النُّواحْ وزَمَانُ الجُنُونْ وأَطَلَّ الصَّبَاحْ مِنْ وراءِ القُرُونْ الشابي ليتني أنساك يوما يا جراح كلما هلّ مساء تحت شوق الصباح خوجة ونسيت في زمان الشوق أسري وقيودي وغراما ليس فيه غير أنقاض العهود خوجة في فِجاجِ الرَّدى قَدْ دفنتُ الأَلمْ ونثرتُ الدُّموعْ لرِيَاحِ العَدَمْ وأَذبتُ الأَسَى في جمالِ الوُجُودْ ودَعوْتُ الفؤادْ واحةً للنَّشيدْ الشابي ومن بعد ذلك تنطلق الزفرات من صدريْ الجريحين: الْوَداعَ الوَداعْ يا جِبَالَ الهُمومْ يا ضَبابَ الأَسى يا فِجاجَ الجحيمْ قَدْ جرى زَوْرَقي في الخِضَّمِ العَظيمْ ونشرتُ القلاعْ فالوَداعْ الوداعْ الشابي
يا فؤادي أيْن ضيّعت إبائي قد أضاعوك وعاشوا في وقائي يا فؤادي لا تنادي بالهوى بالحبّ يوما كان حلما في حياتي فغدا ظلما ووهما خوجة من خلال ما تقدّم من عرض لقطوف دانية من هذا الشعر الرومانطيقي الذي يصحّ اعتباره لا عربيّا فقط بل كونيّا تنفجر أمامنا حقيقة صارخة وهي أنّ الشعر نغم أو لا يكون وهو ما ذهب إليه شاعرنا الخالد عندما خطّ بيمينه في إحدى مقالاته: " الشعر ما تسمعه وتبصره في ضجّة الريح وهدير البحار وفي نسمة الورد الحائرة يدمدم فوقها النحل ويرفرف حولها الفراش، وفي النغمة المرددّة يرسلها في الفضاء الفسيح" وهو أيضا ما يؤكده الشاعر السعودي عندما يتحدّث إلى الأديب اللبناني جهاد فاضل في مجلّة "العربي" الكويتية في عددها 605 الصادر سنة 2009: " ثمّة لحظات فريدة تجتاح النفس خلالها يستقبل الشاعر من الكون أفكار وخواطر تستنتج وتعبر بالآلاف تسري الفكرة في داخله كما تسري الكهرباء فتشعل الحريق لتتدفّق القصيدة على هيئة شلاّل أو لهيب على هيئة نغم". فللّه درّك يا أبا القاسم فلقد رحلت إلى النّور، فالنور ظلّ الإلاه فأنا السعيد بأنّني متحوّل من عالم الآثام والبغضاء لأذوب في فجر الجمال السرمدي وأرتوي من منهل الأضواء " نشيد الجبّار".