هو ليس من القضاة العاديين وليس من الشخصيات التي تنكرت لأصولها وجذورها الاجتماعية بمجرد أن مكنها التعليم من مصعد اجتماعي غير حياتها نحو الأفضل وهو كذلك ليس من الشخصيات العامة المتعالية بعد أن تقلد مناصب في الدولة وأصبحت كلمته مسموعة وفي الأخير هو شخصية بقيت إلى اليوم مرتبطة بذاكرتها الأولى في بيئتها القديمة " الحومة العربي " ولم تتخل يوما عن عشقها الأول وغرامها المبكر في لعب الورق ومتابعة مباريات كرة القدم .. هذا هو القاضي أحمد صواب ضيف مؤسسة التميمي في ندوة يوم السبت 6 أكتوبر الجاري الذي جاء ليقدم شهادته عن مسيرته المهنية وتجربته الحياتية والقضائية وعن تجربته في خدمة الشأن العام. في هذا اللقاء تحدث القاضي أحمد صواب عن أصوله البربرية وبنبرة فيها شيئا من الألم تحدث عما تعرض له السكان الأصليون لتونس من معاناة على أيدي الكثير من أنظمة الحكم المتعاقبة التي وصفها بالاستعمار بدءا من الاحتلال الإسباني مرورا بقدوم العثماني والاحتلال الفرنسي وانتهاء بدولة الاستقلال مع الرئيس الحبيب بورقيبة الذي يصفه بالمستبد المستنير و قد اعتبر أن كل هذا الإرث من الاستعمار والاحتلال قد أثر بالضرورة في شخصية التونسي .. تحدث عن أصوله الاجتماعية فهو إبن المدينة العتيقة أو كما يحلو أن يسميها الحومة العربي من مواليد سنة 1957 ولد في قلب تونس القديمة بنهج الصباغين في عائلة شعبية محافظة جدا ومسيسة جدا فوالده وأخواله كانوا من ضمن المقاومين للاحتلال الفرنسي قبل أن يتفرق جمعهم وينقسموا بعد الاستقلال بسبب الخلاف البورقيبي واليوسفيي .. في هذا المناخ تربى أحمد صواب وترعرع وفي هذه البيئة نشأ وقد طبع كل هذا المناخ شخصيته وأثر في تكوينه وظل يرافقه إلى اليوم رغم انتقال العائلة إلى منطقة حي الزهور بعد التوسع العمراني الذي أقدمت عليه دولة الاستقلال والذي مكن الكثير من التونسيين من الانتقال إلى مناطق أكثر تنظيما ومع ذلك فقد بقي أحمد صواب مرتبطا بشدة إلى حومته الأولى وأصدقائه القدامى ولم يغير فيه الانتقال إلى حي عصري ولا دراسته للحقوق في السبعينات ولا توظيفه بوزارة الفلاحة مهتما بالشؤون القانونية شيئا وظل صواب ذلك الشاب الذي نشأ في حومة عربي في قلب العاصمة وذالك الشاب البشوش الضحوك صاحب النكتة التي لا تفارقه و الذي يعشق لعب الورق وكرة القدم . عرّج أحمد صواب قليلا على الحياة الجامعية وعلى الحركة الطلابية زمن قدومه إلى كلية الحقوق وهي أجواء كانت تهيمن عليها الرياح الاشتراكية والايدولوجيا الماركسية قبل ظهور الإسلاميين .. في هذا المناخ الذي تشقه الميولات القومية والليبرالية والماركسية عاش صواب سنواته في الجامعة وكان لزاما أن يتأثر بهذا المناخ مع ما حمله معه من إرث عائلي سياسي مشبع بالوطنية . تحدث بإطناب كبير عن المؤثرات التي جعلته يعشق مادة الحقوق ليصبح بعد سنوات من أبرز القضاة الإداريين في هذه المرحلة التي مر بها بالمحكمة الإدارية تحدث بكثير من الفخر والاعتزاز عن العمل الكبير الذي قام به مع مجموعة من القضاة في زمن حكم بن علي وعن الجرأة والشجاعة التي كانت عند جيله من قضاة المحكمة الإدارية في الوقوف في وجه القرارات الجائرة السالبة للحقوق والحريات .. تحدث كيف وقفت المحكمة الادارية أمام الكثير من القرارات التعسفية الصادرة بحق الأشخاص وخاصة من السياسيين والطلبة والحقوقيين وكيف أن المحكمة الادارية استطاعت أن تكوّن فقه قضاء جديد وفكر قانوني لافت واجتهدت من أجل نصرة المنتهكة حقوقهم وعدد جملة من القضايا التي كانت مفخرة المحكمة في ذلك الزمن الذي يوصف بسنوات الجمر . تحدث عن معضلة عدم تنفيذ الأحكام ومنها الأحكام الصادرة عن المحكمة الادارية وعن الدور الذي لعبته في دفع الدولة إلى سن قانون خاص يعنى بالحماية الاجتماعية والتغطية الاجتماعية لبعض الفئات على غرار عمال الحضائر الذين تعهدت المحكمة ببعض قضاياهم رغم غياب قانون واضح يؤطرهم .. تحدث عن الملفات التي كانت تتعهد بها المحكمة الإدارية وهي ملفات كانت الدولة فيها متهمة ولكن ذلك لم يمنع المحكمة الادارية من إصدار قرارات تاريخية أثرت في الفكر القضائي التونسي وقدم صورة على أن القضاء الإداري كان سلطة مؤثرة في مراقبة السلطة التنفيذية ومن ورائها مراقبة السلطة السياسية . يرجع أحمد صواب المكانة التي احتلتها المحكمة الادارية في مرحلة ما قبل الثورة وما تمتعت به من استقلالية وهامش من الحرية في عملها إلى الإطار القانوني الذي توفر لها في علاقة بحماية مسار الترقيات ومسار الرتب ونظام المركزية الذي جنبها تدخل السلطة التنفيذية في عملها وعدم قدرة السياسي السيطرة عليها على عكس القضاء العدلي والمالي الذي استطاع النظام القديم أن يطوعهما لصالحه وقد دفع قضاة المحكمة الادارية جراء هذه الاستقلالية بعض الثمن حيث تم عزل بعض القضاة على غرار رشيد الصباغ والقاضي بوصفارة وغيرهما . ما تغير بعد الثورة هو أن الغاية التي كانت المحكمة الادارية تسعى إلى تحقيقها والمتمثلة في حماية الحقوق والحريات قد تدعمت أكثر بالتقليص من القيود ومن محاولات الاحتواء وخاصة مع اقتحام ميادين أخرى مثل مراقبة دستورية القوانين في غياب المحكمة الدستورية ومراقبة الشكاوي الناتجة عن الانتخابات وبالتالي مراقبة الهيئة العليا للانتخابات وما يصدر عنها. أنهى أحمد صواب شهادته بالحديث عن موضوع الفساد في مجال القضاء فلم ينكر وجود بعض القضاة الفاسدين كما هو الشأن في كل المجالات التي لا تخلو هي الأخرى من استثناءات لكن الغالب على سلك القضاء أن القطاع في غالبيته مستقيم ونزيه تحدث عن المحاولات التي حصلت بعد الثورة لتطهير القضاء مثل ما فعله نور الدين البحيري زمن حكم الترويكا مع الحملة التي قادها لعزل العديد من القضاة بشبهة التعاون مع نظام بن علي وخدمة سياسته وهي ملفات الكثير منها حسب صواب لا يرتقي لتكون دليلا عزلهم . فيما يخص مكافحة الفساد التي تدعي الحكومة انها تقودها قال أحمد صواب بأن هناك سياسة قضائية متبعة لا تساعد على محاربة الفساد محاربة ناجعة وأن القضاء متأخر جدا في هذا الموضوع ويسير ببطيء كبير وكذلك الأمر في موضوع الأملاك المصادرة الذي لم يتقدم كثيرا وهذا كله يتطلب تغيير نسق النظر والبت في القضايا المعروضة.