الحدث البارز هذه الأيام والذي اختطف اهتمام الناس ما كشفت عنه الندوة الصحفية التي عقدتها لجنة الدفاع عن الشهيدين شكري بلعيد ومحمد البراهمي من وجود جهاز استخباراتي تابع لحركة النهضة وراءه المدعو المصطفى خذر المحكوم عليه بثماني سنوات سجن في قضية اختلاس أوراق والاحتفاظ بوثائق تهم الأمن الداخلي وجدت بحوزته و ليس من حقه الاحتفاظ بها حسب ما جاء في حيثيات حكم الإدانة حيث استطاعت هذه الندوة الصحفية أن تحدث الكثير من الضجيج من خلال المخرجات التي راهنت عليها وهي مسألتين في غاية من الأهمية المسألة الأولى اثبات أن هناك جهاز أمني مواز يعمل لصالح حركة النهضة والمسألة الثانية إثبات أن هذا الجهاز مورط في الاغتيالات السياسية التي حصلت وله علاقة باغتيال شكري بلعيد ومحمد البراهمي بما يعني أن انعقاد هذه الندوة وتوقيتها سوف ينتج عنهما بالضرورة إعادة فتح الملفات المغلقة أو التي خلنا أنها قد أغلقت وبما يعني كذلك إعادة خلط المزيد من الأوراق في سياق سياسي واجتماعي واقتصادي مضطرب من تداعياته السير نحو المجهول. فبقطع النظر عن أحقيقة لجنة الدفاع عن الشهيدين في كشف الحقيقة ومعرفة الجهة التي كانت وراء الاغتيالات السياسية .. وبقطع النظر عن عدم اقتناع الجبهة الشعبية ومن معها بما انتهى إليه التحقيق في هذه القضية و تحميل مسؤولية تصفية شكري بلعيد ومحمد البراهمي إلى جماعة انصار الشريعة ومعرفة الجناة والفاعلين المباشرين البعض منهم قتل والبعض الآخر في حالة ايقاف وتحميل حكومة الترويكا المسؤولية السياسية واتهام حركة النهضة بالضلوع في هذه الاغتيالات .. بقطع النظر عن كل ذلك فإن الذي حصل بعد الندوة الصحفية التي كشفت عن شخصية مصطفى خذر والتي أخرجته إلى الأضواء بعد أن كان شخصية نكرة لا يعرفها أحد هو أن الكثير من الأوراق يتم خلطها من جديد في ظرف دقيق وحساس تمر به البلاد وفي سياقات متوترة وملتبسة لا يعرف أحد مآلاتها. قد يقول قائل ليس هناك توقيت محدد للكشف عن الحقيقة كما لا نختار الزمن الذي نريد لتعرية الحق وإزاحة الغموض والشكوك .. ولكن ما حصل مع ندوة الدفاع عن الشهيدين أن توقيتها الذي جاء في سياقات ملتبسة زاد من حيرة الناس وزاد من استقالتهم السياسية وتخليهم عن الاهتمام بالشأن العام وما يدور في الحياة الحزبية .. جاءت هذه الندوة في وقت والبلاد تستعد فيه لإجراء انتخابات رئاسية وتشريعية في العام المقبل وما تحتاجه هذه المحطة الانتخابية من قدر من الهدوء .. جاءت في سياق اجتماعي يعرف توترا بين الحكومة واتحاد الشغل على خلفية الاصلاحات المفروضة من صندوق النقد الدولي وعلى خلفية نية الحكومة التفويت في المؤسسات العمومية ونيتها رفع الدعم نهائيا عن المواد الأساسية لحياة الناس مع ما تعرفه المقدرة الشرائية للمواطن من تراجع وعدم قدرتها على مجاراة نسق ارتفاع الأسعار .. جاءت هذه الندوة في سياق تدهور الوضع الاجتماعي وفي ظل توسع دائرة الاحتكارات وأزمة الحليب وإتلاف الفلاحين للخضر نتيجة تجاهل الحكومة ما يتكبدونه من خسائر .. جاءت هذه الندوة في سياق سياسي ملتبس جراء أزمة الحكم التي تسبب فيها تصدع جسم الحزب الحاكم الفائز في الانتخابات والصراعات الحادة التي تشق قياداته والتي أثرت سلبا على أدائه السياسي وأعطت الانطباع السيئ عند الناس .. وجاءت في سياق غياب التفاهم بين مؤسسة الرئاسة و الحكومة وهو خلاف ألقى بضلاله على كل المشهد السياسي وطبعه بالضبابية والخوف على مستقبل البلاد. جاءت هذه الندوة في سياق اقتصادي ومالي قاتم بعد أن حافظت كل المؤشرات عن تراجعها من بطالة وفقر ومقدرة شرائية وتضخم وتوريد ومخزون للعملة الصعبة وعدم تحسن عائدات التصنيع وتعثر عودة الاستثمارات وصعوبة تنفيذ البرامج التنموية وتصاعد نسبة المديونية مع تراجع سعر الدينار وبلوغه مستويات غير مسبوقة .. كل هذه السياقات التي تهيمن على البلاد مع سياقات أخرى بيئية وصحية ومناخية وما خلفته من كوارث لا تزال تداعياتها إلى اليوم قائمة إضافة إلى انتعاش الارهاب في مثل هذه الأوضاع كل ذلك يجعل من الرؤية تغيب والبوصلة تضيع والطريق ينسد والأفق يحجب .. كل هذه السياقات التي تحتاج قدرا من الهدوء لمعالجة مضامينها وقدرا من الانسجام بين الأحزاب حتى لا تتحول إلى عبء ثقيل على الناس التي لا يعنيها التناحر الحزبي والتوظيف السياسي بقدر ما يعنيها ماذا قدمت له الدولة. فهل يمكن لنا أن نتساءل بعد رصد كل هذه التحديات والاكراهات التي تعترضنا هل أن لجنة الدفاع عن الشهيدين شكري بلعيد ومحمد والبراهمي كانت غايتها من عقد تلك الندوة خدمة الحقيقة ولا شيء غير الحقيقة لمعرفة من قتل وخطط ونفذ أم أن الغاية كانت ارباك خصم سياسي وخلط المزيد من الأوراق السياسية لتحقيق مآرب حزبية ضيقة ؟ هل يحق لنا بعد ما شهدناه من تجاذب وتبادل للتهم وتراشق بالتخوين أن نتساءل عن التوظيف السياسي الذي لا يمكن أن يخدم قضية الشهيدين وهل يمن أن نعتبر أن ما حصل يجعل القناعة عند الكثير من المتتبعين تقر بوجود خلفيات سياسية وحزبية وانتخابية غير قادرة على خدمة القضية الأصلية والحقيقة المجردة التي نسعى إليها ونجزم بأن الشعارات التي تعالت بها حناجر حشود مشيعي جثمان الشهيدين لا تنسجم مع دوافع الندوة ما يجعل السؤال الذي يفرض نفسه هو لماذا تم عقد هذه الندوة الآن وليس من قبل ؟ ولماذا لم يتم ربط ملف مصطفى خذر بملف الشهيدين منذ الوهلة الأولى خاصة وأن الملف الأول كان معروفا منذ سنة 2013 ونال صاحبه حكما بالسجن منذ سنة 2015 ؟ لعل الجواب عن كل هذه الأسئلة المشروعة نجدها في مقال مهم كتبته الدكتورة أمال قرامي وهو نص يمكن اعتباره مرجعيا في الفكر السياسي تقول فيه " عندما تتعطل ملكة العقل ويعجز السياسي عن صياغة التصورات وتحديد البرامج وتقديم المقترحات يغدو إحداث الضجيج وإشعال المعارك البديل الممكن والمتيسر ويتحول التدبير السياسي بما هو إقامة العدل بين الناس وتحقيق مصالح الشعب والعناية بحاجياتهم إلى تدرّب على فن الحرب .. " ومن فنون الحرب السياسية تحويل وجهة الناس وتحويل اهتماماتهم واختطاف الفعل السياسي من التدبر لحل المشاكل إلى التدرب على اختلاقها ..