لقد ورث سيدنا محمد، صلى الله عليه وسلم، عن آبائه المجد والمكانة. وحفظه الله أن تصيبه لوثات الجاهلية، كما طهره من أدرانها؛ فكان خُلُقه قبل البعثة مثلاً بين قريش. لكنه صلى الله عليه وسلم لم يرث عن آبائه متاعاً أو تجارة، فكان على شرف نسبه، وسمو مكانته، يسعى في الأرض، يفتش عن رزقه، ويكدح يومه مجابهاً شظف العيش، وخشونة الحياة، وهو في ذاك يتنقل بين رعي الغنم والتجارة. فرعى صلى الله عليه وسلم الغنم مثله في ذلك مثل النبيين من قبله، وكان يمضي نهاره مستظلاً بسماء ربه، ويقضي يومه حُر الخطا يتجول بين المراعي، حر البصر يقلبه في أرجاء الكون الواسع حوله، حر الفؤاد يتنقل به بين فكرة وفكرة! ثم هو مع ذلك لا يهيم بعيداً في الخيال، بل يحفظ يقظته لتحفظ له غنمه الشاردة عن أنياب الذئاب؛ تعلم ذلك حين رعى الغنم قديماً في بني سعد، وثابر عليه وهو يرعاها -على قراريط- لأهل مكة. وبينما أبو طالب يمر في أسواق مكة، علم أن خديجة تستأجر الرجال لتبعثهم في تجارتها إلى الشام مقابل بَكْرَيْنِ -أي جملين- فاستأذن أبو طالب محمداً صلى الله عليه وسلم ثم عاد إلى خديجة فعرض عليها استئجار محمد مقابل أربعة أبكر. فأسرعت بالموافقة، وقيل بل هي التي أرسلت إليه تستأجره، على أن تعطيه أفضل ما كانت تعطي غيره من التجار، لما سمعت من كرم خلقه، وصدق حديثه. فأجابها وعمره حينئذ خمسة وعشرين عاماً. وارتحل صلى الله عليه وسلم إلى الشام بتجارة خديجة، وفي صحبته غلامها ميسرة، فباع واشترى. ورأى ميسرة من عظيم أمانته وصدق حديثه، وفضل خلقه، ما جعله يسارع إلى خديجة عند عودته ليقص عليها ما رآه من هذا الرجل العظيم. وقد لمست هذه السيدة الكريمة فضل محمد صلى الله عليه وسلم حين وجدت تجارتها بخلقه وعذوبته قد تضاعفت -أي بلغت الضعف- مما قوَّى في صدرها رغبتها في الزواج منه