ما ثناها ما الذي أوجب يا ناس جفاها وفتاها لم يساكن قلبه حبّ سواها من كلمات - هل هي حقّا من كلمات أم نغمات ؟ - عبد الرزاق كرباكة (1903-1945) ومن ألحان سيّد شطّا (1897-1985) صدحت الفنانة فتحية خيري بهذه الرائعة التي لم تكن فريدة في السجل الغنائي لسيدة الطرب في تونس خلال أربعينات القرن الماضي وخمسيناته، أترى تذكريني لمحمد العريبي، جسمي بعيد عليك لبلحسن الشاذلي، محلى ليالي اشبيليا للهادي العبيدي، وبالطبع " أريانة نزهة وهواء وأميّة لذيذة ودواء وردك مثل العطر سواء يا أريانة يا أريانة من نظم الطاهر القصّار وألحان علي الرياحي. قلت بالطبع وذلك لأنّ الذي طلع علينا هذه الأيّام بكتاب " فتحية خيري: فنّ وشجن" إنّما هو الصديق فاخر الرويسي الذي كان شغل خطّة مساعد رئيس بلديّة أريانة من سنة 1990 إلى سنة 1995 وقد كان من قبله والده المرحوم محرز شغل نفس الخطّة في المجلس البلدي الذي تشرفت برئاسته من سنة 1980 إلى سنة 1985 فعلاقة الأب والابن بأريانة متينة متانة العلاقة التي كانت تربط المرحوم محرز بالأستاذ فتحي زهير زوج الفنانة فتحية إذ أنه كان لمدّة من الزمن أمين سرّ هذا المحامي الفذّ، فلا غرو أن يؤلف الابن خرّيج معهد العلاقات العامّة بباريس كتابا أوّلا متعلقا بالأستاذ زهير صهر الزعيم صالح بن يوسف " العميد فتحي زهير: الوساطة الضائعة في الخلاف البورقيبي اليوسفي". ولدت خيرة بنت سالم اليعقوبي - بحسب ما صرّحت به هي نفسها - يوم 17 أفريل 1916 بالدهماني، إلا أنّ جدّتها التي كفلتها إثر وفاة والدتها فاطمة بوحجبة لم تسجّلها إلا سنة 1918 وذلك ببلديّة تونس، سكنت عند جدتها للأمّ بنهج سيدي الرصاص في الحلفاوين. التحقت بمدرسة الحي ولكن سرعان ما انجذبت إلى الأجواء الفنيّة التي كانت طاغية في ذلك الزمان وفي ذات المكان فملّت الدرس والدراسة ومالت إلى ما لقي هوى في نفسها: الفنّ فأقرت العزم على أن تهب عمرها له مثلما يردّد محمد الجموسي " عمري للفنّ ". انكبّت على تعلّم العزف على العود بتشجيع من زوج خالتها، وتولى محمد الشيشتي عازف البيانو تعليمها أصول الموسيقى كما يقول فاخر الرويسي " حضرت فتحية خيري دروس الشيخ علي الدرويش وقد أتى به من سوريا البارون ديرلانجي". كان أوّل ظهور لفتحيّة خيري - وهو الاسم الفنّي الذي أطلقه عليها عبد الرزاق كرباكة - يوم 1 جويلية 1932 بكازينو البلفدير في حفل تكريم للوفد التونسي العائد من القاهرة حيث ساهم في المؤتمر الأوّل للموسيقى العربية، عندما ردّدت قطعا من المالوف التي لقنها إيّاها الشيخ محمد غانم (1886-1948) والذي كان ضمن الوفد الذي ترأسه المؤرخ حسن حسني عبد الوهاب (1884-1968). وقبل ذلك فلقد اعتلت فتحيّة خيري خشبة المسرح في سنّ الرابعة عشر وذلك من خلال دور جورجيت في مسرحية " المائدة الخضراء " التي قدّمتها جمعية التمثيل العربي، ثمّ تواصلت رحلة الفنانة مع الركح تمثيلا وغناءا. من ذلك أنها تقاسمت البطولة في مسرحية " روميو وجويليات" لفرقة النجم التمثيلي، كما أنها شاركت بالغناء في مسرحية " الإفريقية " التي قدّمتها فرقة الكوكب التمثيلي ويعود لهذه المسرحية الفضل في تعرّف فنّانتنا على الموسيقار المصري سيّد شطّا والتي توطدت العلاقة الفنية بينهما إلى آخر مرحلة من عمرها الفني. انضمّت فتحية خيري إلى المعهد الرشيدي بدعوة من رئيسه مصطفى الكعاك (1893-1984) وانطلقت في أداء عيون الفنّ الأصيل: " زعمة يصافي الدهر " من ألحان محمد التريكي ، غزالي نفر " من ألحان خميس الترنان، " أين أيّامي الوديعة " من ألحان صالح المهدي. كما انضمت إلى الإذاعة الوطنية عند إحداثها عام 1938 وأصبح لها موعد أسبوعي قار مع المستمعين "سهرة الأربعاء". قامت فتحية خيري بجولات فنيّة في الجزائر والمغرب وفرنسا ومصر سنة 1953 حيث غنّت في العيد الأوّل للثورة المصرية. ولقد انتظم حفل خاصّ بها حضره محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش ولقد ألقى خلال هذا الحفل الدكتور إبراهيم ناجي " صاحب الأطلال" قصيدا في مدح ( بلبل من تونس): النيل روحك والبساط السندسي طلب الغصون لبلبل من تونس هيهات مالك في ديار غربة الفنّ أقوى عروة للأنفس لقد انخرطت فتحية خيري في الحركة الوطنية ولقد ذكّر فاخر الرويسي بالقلم والصورة مختلف أوجه مساهمة الفنانة في الحراك الوطني ولقد كان الرئيس بورقيبة يبادلها مشاعر الاعتزاز ولقد غنت له بعد الاستقلال ومن أشهر أغانيها في هذا المضمار: سلامات سلامات يا غالي علينا. يذكر المؤلف في هذا الصدد أنّ بورقيبة أمر في فترة اعتزالها للفتّ في بداية الثمانينات برصد جراية قارة لها إلى أن وافاها الأجل المحتوم رحمها الله يوم 06 جويلية 1986.