غارات إسرائيلية عنيفة تستهدف مواقع مختلفة في سوريا    علماء يحذرون.. وحش أعماق المحيط الهادئ يهدد بالانفجار    تفاصيل الاحكام السجنية الصادرة في قضية "التسفير"    دعما للتلاميذ.. وزارة التربية تستعد لإطلاق مدارس افتراضية    ترامب يبحث ترحيل المهاجرين إلى ليبيا ورواندا    الدوريات الأوروبية.. نتائج مباريات اليوم    جلسة عمل بين وزير الرياضة ورئيسي النادي البنزرتي والنادي الإفريقي    نصف نهائي كأس تونس لكرة اليد .. قمة واعدة بين النجم والساقية    ملكة جمال تونس 2025 تشارك في مسابقة ملكة جمال العالم بالهند    مهرجان «كنوز بلادي» بالكريب في دورته 3 معارض ومحاضرات وحفلات فنية بحديقة «ميستي» الاثرية    عاجل: ألمانيا: إصابة 8 أشخاص في حادث دهس    تونس: مواطنة أوروبية تعلن إسلامها بمكتب سماحة مفتي الجمهورية    تحيين مطالب الحصول على مقسم فردي معدّ للسكن    الاتحاد الجهوي للفلاحة يقتحم عالم الصالونات والمعارض...تنظيم أول دورة للفلاحة والمياه والتكنولوجيات الحديثة    عاجل: بينهم علي العريض: أحكام سجنية بين 18 و36 سنة للمتهمين في قضية التسفير مع المراقبة الإدارية    القيروان: هلاك طفل ال 17 سنة في بحيرة جبلية!    تحسّن وضعية السدود    معدّل نسبة الفائدة في السوق النقدية    اللجنة العليا لتسريع انجاز المشاريع العمومية تأذن بالانطلاق الفوري في تأهيل الخط الحديدي بين تونس والقصرين    مأساة على الطريق الصحراوي: 9 قتلى في حادث انقلاب شاحنة جنوب الجزائر    تونس تسجّل أعلى منسوب امتلاء للسدود منذ 6 سنوات    عاجل: إدارة معرض الكتاب تصدر هذا البلاغ الموجه للناشرين غير التونسيين...التفاصيل    عاجل/ تحويل جزئي لحركة المرور بهذه الطريق    تونس تستعدّ لاعتماد تقنية نووية جديدة لتشخيص وعلاج سرطان البروستات نهاية 2025    اتخاذ كافة الإجراءات والتدابير لتأمين صابة الحبوب لهذا الموسم - الرئيسة المديرة العامة لديوان الحبوب    النّفطي يؤكّد حرص تونس على تعزيز دور اتحاد اذاعات الدول العربية في الفضاء الاعلامي العربي    عاجل/ زلزال بقوة 7.4 ودولتان مهدّدتان بتسونامي    الشكندالي: "القطاع الخاص هو السبيل الوحيد لخلق الثروة في تونس"    الليلة: أمطار رعدية بهذه المناطق..    جريمة قتل شاب بأكودة: الإطاحة بالقاتل ومشاركه وحجز كمية من الكوكايين و645 قرصا مخدرا    مدنين: مهرجان فرحات يامون للمسرح ينطلق في دورته 31 الجديدة في عرس للفنون    عاجل/ تسجيل إصابات بالطاعون لدى الحيوانات..    غرفة القصّابين: أسعار الأضاحي لهذه السنة ''خيالية''    منوبة: احتراق حافلة نقل حضري بالكامل دون تسجيل أضرار بشرية    سليانة: تلقيح 23 ألف رأس من الأبقار ضد مرض الجلد العقدي    مختصون في الطب الفيزيائي يقترحون خلال مؤتمر علمي وطني إدخال تقنية العلاج بالتبريد إلى تونس    فترة ماي جوان جويلية 2025 ستشهد درجات حرارة اعلى من المعدلات الموسمية    الانطلاق في إعداد مشاريع أوامر لاستكمال تطبيق أحكام القانون عدد 1 لسنة 2025 المتعلق بتنقيح وإتمام مرسوم مؤسسة فداء    حزب "البديل من أجل ألمانيا" يرد على تصنيفه ك"يميني متطرف"    جندوبة: انطلاق فعاليات الملتقى الوطني للمسرح المدرسي    فيلم "ميما" للتونسية الشابة درة صفر ينافس على جوائز المهرجان الدولي لسينما الواقع بطنجة    كلية الطب بسوسة: تخرّج أول دفعة من طلبة الطب باللغة الإنجليزية    بطولة افريقيا للمصارعة بالمغرب: النخبة التونسية تحرز ذهبيتين في مسابقة الاواسط والوسطيات    خطر صحي محتمل: لا ترتدوا ملابس ''الفريب'' قبل غسلها!    صيف 2025: بلدية قربص تفتح باب الترشح لخطة سباح منقذ    تطاوين: قافلة طبية متعددة الاختصاصات تزور معتمدية الذهيبة طيلة يومين    إيراني يقتل 6 من أفراد أسرته وينتحر    الأشهر الحرم: فضائلها وأحكامها في ضوء القرآن والسنة    الجولة 28 في الرابطة الأولى: صافرات مغربية ومصرية تُدير أبرز مباريات    الرابطة المحترفة الثانية : تعيينات حكام مقابلات الجولة الثالثة والعشرين    الرابطة المحترفة الأولى (الجولة 28): العثرة ممنوعة لثلاثي المقدمة .. والنقاط باهظة في معركة البقاء    ريال بيتيس يتغلب على فيورنتينا 2-1 في ذهاب قبل نهائي دوري المؤتمر الاوروبي    أبرز ما جاء في زيارة رئيس الدولة لولاية الكاف..#خبر_عاجل    صفاقس ؛افتتاح متميز لمهرجان ربيع الاسرة بعد انطلاقة واعدة من معتمدية الصخيرة    "نحن نغرق".. نداء استغاثة من سفينة "أسطول الحرية" المتجهة لغزة بعد تعرضها لهجوم بمسيرة    خطبة الجمعة .. العمل عبادة في الإسلام    ملف الأسبوع.. تَجَنُّبوا الأسماءِ المَكروهةِ معانِيها .. اتّقوا الله في ذرّياتكم    أولا وأخيرا: أم القضايا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



كتب نجيب الحجري: الشعب الفلسطيني "فن تعويم شعب عظيم في بحر ميت"
نشر في الصريح يوم 07 - 12 - 2018

جلست صدفة ذلك الصباح على مشرف أحد المقاهي الشهيرة بالعاصمة على بضع أمتار من "مسرح تفجير منى" بالأمس، وبمعية ثلاثة أشخاص من كبار السن دعاني أحدهم لاحتساء قهوة. وبينما سألني الثاني عن الوثائق التي بيدي فقلت "حزب متجول" وأعطيته بسطة سريعة عن أنشطة وتحركات الحركة الوسطية الديمقراطية، مع نسخة من إحدى بياناتنا السابقة. وقدم إلي الثالث وهو إيطالي يعيش في تونس منذ ولادته، أعزب لا يعرف بلده الأصلي. غاب الثاني عن الطاولة ثم خرج من القاعة ومعه رجل في مقتبل العمر شعره يميل الى البياض، سارع بتقديمه إلي كمحام، صافحني مشيرا أنه يحتسي جاعة أو إثنين لا غير ثم يصيح قائلا أنه يعيش في بلد "القمع" الذي رسخه بورقيبة، وأنه يرغب في أخذ صورة معي تحت تمثال هذا الزعيم ليعبر له عن غضبه من التداعيات المأساوية لأحكام الفصل الثامن عشر من مجلة الأحوال الشخصية والذي يجرم اصطحاب رجل لامرأة غير زوجته إلى غرفة نزل ما للترفيه عن النفس...ولعنة الله على بلد يمنع فيها احتساء الجاعة على مشرف هذا المكان مثلما كان بالماضي. وخرب الله أفئدة من حرضوا طفلة مثقفة تحن إلى الزواج والعيش الرغد لتفجير نفسها، شخص ذو مواقف لم أتردد كالعادة لدعوته إلى الالتحاق بحركتنا. قال سأفكر في الموضوع وإن لم أتحزب من قبل، ولكني أدعوك بدوري إلى الاطلاع على مقال لي على صفحة البلوغ بعنوان "يجب على الفلسطينين أن يكافحوا سلميا لجعل إسرائيل دولتهم" أو كما ترجمتها أنا "الفلسطينيون والكفاح السلمي لنيل إسرائيل".
يقول صاحب المقال وهو الأستاذ كمال الشعبوني، محام بتونس: لقد أضاع الفلسطينيون أرضهم وإلى الأبد...جل العرب يعتقدون أن أرض فلسطين التاريخية يجب أن تعود حصريا إلى العرب وحدهم، وإلى المسلمين أفضليا. وهم لا يولون أي اعتبار لملايين اليهود الإسرائيليين المستقرين طوعا او بالقوة والمولودين في فلسطين/إسرائيل منذ سبعين عام. غالب التونسيين يعتبرون أن اليهود أصيلي فلسطين هم الوحيدين الذين لهم حق البقاء في فلسطين. بينما اليهود الآخرون بما في ذلك مواليد إسرائيل/فلسطين يجب أن يغادروا الأرض الفلسطينية ويعودوا إلى بلدهم الأصلي. وويل لمن يخالف هذا الفكر أو يعبر عنه علنا، حيث تفتح أمامه أبواب الجحيم، ويلعنه الكفر ويسب ويشتم، وإن تمادى في ذلك سوف يعنف جسديا. الحوار الحر حول هذا الموضوع غير مقبول بتاتا، ولا يعتبر من مكاسب ثورة 2011.
ولكن والحمد لله لم تكن للدولة التونسية مفهوم راسخ ومتجذر حول النزاع الفلسطيني الإسرائيلي. ويمكن للدولة والشعب التونسي أن يتفخروا بالاحترام والمحافظة على حق اليهود التونسيين الكامل في المواطنة، ما عدى الترشح لرئاسة الجمهورية. وهذا ما يؤسفني شخصيا. تونس تحب يهودها وتعاملهم بكرامة، كما أن دستور 2014 يحميهم ويضمن حق شعائرهم الدينية. حيث أن تونس هي البلد الوحيد مع المغرب الذي يحترم الديانة الإسرائيلية، أقلية مضطهدة ومنبوذة ومحرومة من المواطنة والحقوق والواجبات في أوطان أخرى. أنا فخور بوطني الذي لم يحد عن هذه السياسة تجاه أقلية دينية اختلطت حياتها بحياتنا لأكثر من ألفيتين وإلى أن دقت نواقيس الصهيونية ليغادروا بلدنا وبلدهم العزيز ويستقروا في دولة إسرائيل التي تأسست بموجب قرار منظمة الأمم المتحدة في 1947. وبخلاف العرب الذين يحلمون بماضيهم المجيد وعظمة الإسلام دين الأجداد، والخلافة الأموية والإمبراطورية العباسية، وأمجاد الأندلس وإعادة غزوة القدس على يد صلاح الدين، كان اليهود أكثر واقعية وبرغماتية ونجاعة. ورغم حلمهم لأكثر من تسعة عشر قرنا ب "السنة المقبلة القدس"، فإنهم عملوا على تحقيق حلمهم تدريجيا بكل تأكيد وفعليا. لقد هاجروا جماعيا إلى أرض فلسطين. ثم اشتروا أراضي الفلسطينيين بإغرائهم بأسعار خيالية وافتكوا أراضي أخرى بالقوة. في 29 نوفمبر 1947 كان القرار 181 لمنظمة الأمم المتحدة الذي تصادق فيه على مخطط تقسيم فلسطين تحت الحماية البريطانية، التي يتم انهاؤها بالانسحاب التدريجي للقوات المسلحة البريطانية وتأسيس دولتين عربية ويهودية ابتداء من غرة أكتوبر 1948. وتقسم فلسطين بمقتضاه إلى ثمانية أجزاء منها ثلاثة مقاسم يهودية وثلاثة عربية. والسابعة هي مدينة حيفا المقاطعة العربية داخل الحدود اليهودية. ويمنح نظام دولي للقدس بعنوان الجزء الثامن.
فسارعت الوكالة اليهودية بقبول القرار رغم عدم رضاها بالحل المقرر لعديد المسائل مثل هجرة اليهود من أوروبا والحدود المفروضة للدولة اليهودية المقترحة. بينما رفض الفلسطينيون والدول العربية كل هذا القرار، متعللين بخرق مخطط التقسيم لأحكام ميثاق الأمم المتحدة الذي يمنح لكل شعب حق تقرير المصير. وصرحوا بأن الجلسة العامة قد صادقت على المخطط في ظروف لا تليق بشرف منظمة الأمم المتحدة، كما أن عرب فلسطين سيعترضون على مخطط يجزأ ويميز ويقسم وطنهم بمنح حقوق ونظام خاص وتفضيلي لفائدة أقلية. ومرة أخرى لا يعبأ العرب والفلسطينيون بقرار المجتمع الدولي، ويرفضونه بكل بساطة دون تقدير العواقب الوخيمة والكارثية على الصعيدين السياسي والجغرافي لهذا الرفض الذي سيأثر على مستقبلهم وعلى مستقبل الشعب الفلسطيني. وفي 14 ماي 1948 ينتهي الاحتلال البريطاني لفلسطين، ويعلن تأسيس دولة إسرائيل، وتبدأ الصراعات الدموية بين العرب واليهود الذين أصبحوا في وقت وجيز يحتلون عديد الأجزاء من الأراضي الفلسطينية وحتى الجزء الغربي من القدس الشريف. وقامت كل من مصر والأردن بإدارة قطاع غزة والضفة الغربية لنهر الأردن بما في ذلك القطاع الشرقي للقدس أي المدينة العتيقة. وتحت تواصل الاحتلال، سيطرت الأردن على الضفة الغربية في انتظار حل للأزمة. ثم تصبح إسرائيل في 11 ماي 1949عضوا بمنظمة الأمم المتحدة، ويفقد الفلسطينيون كل أمل لتقرير مصيرهم الذي أصبح بين يدي العدو الصهيوني. وانسحب العرب من القضية بعد انهزاماتهم المتعددة أمام الجيش الإسرائيلي في 1948 و1956 و1967 و1973. وأصبح اليهود إسرائيليون وتقدموا في تحقيق المشروع الصهيوني، إلى أن اكتسبوا السلاح النووي بمساعدة فرنسا في 1956. واليوم هم يمتلكون أكثر من مائتي صاروخ نووي، ووسائل دفاع متطورة للغاية تستعمل الدرونات وتعتمد على قوة اقتصادية وتكنولوجية وعلمية فائقة. "إسرائيل تضرب من تريد متى تريد وأين تريد". حيث أن الأنظمة التونسية التي كانت لا تتردد في استعراض قوتها ضد شعبها الفقير، واضطهاده وتعذيبه وقتله في عديد الأحيان في عهد بورقيبة والغنوشي وبن علي والسبسي قد ذاقت بدورها وبدون أية ردة فعل، ويلات ونذالة وهول العدوان الصهيوني، من الموساد والسين بات وتزاهال.
وها هو بورقيبة ينصح الفلسطينيين بالواقعية وبسياسة المراحل في خطابه التاريخي بأريحة في 3 مارس 1965، لقبول مخطط التقسيم. ولكن الأذن كانت تصغي الى خطابات جمال عبد الناصر النارية، فوصف بورقيبة بالخيانة والعمالة للمحتل، وتمادى الفلسطينيون في حلمهم الضئيل حول تحرير كامل فلسطين...
ثم يرفض عرفات خلال مفاوضات كامب دايفد 2 حول السلام (جويلية 2000) أي تقسيم للسيادة على القدس الشريف. ضاعت فرصة أخرى على زعيم منظمة التحرير الفلسطينية، بحضور بيل كلينتون وإيهود باراك. وإلى اليوم يبقى الفلسطينيون في النقطة الصفر، وتتضاءل يوما بعد يوم أمال نشأة دولة فلسطينية ذات سيادة ومستقلة وحرة تنعم بحدود طبقا لما ضبط بتاريخ 4 جوان 1967. وبقي السراب والتعلق بكل مرارة في المجتمع الدولي لنيل الحلم الممنوح في 1947. بينما إسرائيل يعظم شأنها تدريجيا ولم تعد تقبل أي تنازلات لفائدة الفلسطينيين ولا حتى فكرة منحهم دولة لها جيش، وعملة نقدية وسيادة شاملة على حدودها الأرضية أو البحرية أو الجوية. لقد ولى عهد شيمون بيريز والحزب العمالي الإسرائيلي، وإيهود باراك وإسحاق رابين الذين كانوا يلينون لبعض الطلبات الفلسطينية. حزب الليكود اليميني المتطرف أصبح صارما في غزوة ما بقي من الأرض الطيبة، وبناء المستوطنات ودعم تكاثر اليهود. وأخيرا وفي 6/12/2017 أعلنت القدس عاصمة أزلية لدولة إسرائيل، من طرف الولايات المتحدة. وتقبل إسرائيل نظريا إقامة وحدة أو دولة فلسطينية على أجزاء منفصلة في غرة والضفة الغربية، شريطة نزع سلاحها ومراقبة فضائها الجوي وأراضي نهر الأردن، ويعني بذلك شبه دويلة بنفوذ محدود في جميع المجالات وغير دائم الشرعية على طول المدى (بنتوستان). فهل يقبر حلم الفلسطينيين ويتبخر أملهم في نيل دولة فلسطينية مستقلة وحرة، بعد ضياع كل الفرص التي أتيحت لهم منذ 1947 ومنذ القرار 181، ومنذ اقتراح بورقيبة. وهل عدلوا عن وهم القذف باليهود عرض البحر، بعد عديد المحاولات الفاشلة لمحاربة الترسانة الإسرائيلية، من هجومات الفدائيين إلى العمليات الإرهابية ضد المدنيين، والانتفاضات الشعبية ثم إلى الاعتداءات اليائسة بالأسلحة البيضاء والسكاكين على الأفراد. وفي كل مرة تنجح إسرائيل في التصدي لهاته المحاولات بأكثر حزم وزجر واغتيالات وإيقافات وسجن، حتى بلغ عدد السجناء اليوم أكثر من ستة آلاف فلسطيني في السجون الإسرائيلية. وأصبحت السلطة الإسرائيلية تعتمد أكثر فأكثر على الايقافات التحفظية دون تهم أو محاكمة ضد سكان الضفة الغربية، وقد طال هذا الاجراء الآلاف منهم. الانهاك والهلع، هكذا هو حال كل الفلسطينيين اليوم. أما القضية الفلسطينية فهي في أسوء حال أيضا، ويجب مراجعة أهدافها، وخطاب قادتها، واستراتيجية تحركاتها، ونظرة مفكريها للنزاع مع اليهود، وإعادة النظر في وسائل الكفاح. الفلسطينيون مطالبون بالتخلي عن فكرة الدولة ذات السيادة والتشبث بحل الدولتين. لكن هذا الحل قبر هو أيضا لان إسرائيل لم تعد قابلة لفكرة نشأة دولة مستقلة وذات سيادة.
وبذلك لم يبقى سواء تحويل منظمة التحرير الفلسطينية إلى حزب سياسي كبير " الحزب الوطني الفلسطيني". أليست هذه فكرة ثورية؟ وأليس هذا التوجه أحسن من فكرة الدولتين؟ الدولة التي ربما يمنحها الكيان الصهيوني إلى الفلسطينيين والتي يلهث وراءها هؤلاء، لا تكون إلا غارا مغلقا مخترقا خنوعا بدون كرامة ودون سيادة حقيقية. بينما الحزب الذي ربما يرفض حل الدولتين ويتشبث بفلسطين واحدة وغير مجزأة. دولة واحدة يسميها اليهود إسرائيل والفلسطينيون فلسطين؟ نعم وعلى غرار مصر (عند العرب) و "إيجيبت" (عند الغربيين) أو النمسا المسماة في الغرب "أوتريش". أي دولة لها اسمين وما المشكل؟ دولة إسرائيل/فلسطين متميزة بهويتين اثنتين، بشعبين ولغتين، وتعدد الديانات، وحكومة واحدة متكونة من يهود ومسيحيين ومسلمين. عديد الدول تعطي مثلا على ذلك، على غرار سويسرا وبلجيكا...إلخ
"الحزب الوطني الفلسطيني" مقترح يمكن اعتماده إذا أراد اتباع استراتيجية الغزو، أن يندرج في صلب السياسة الإسرائيلية ويتخلى عن أي شكل من أشكال العنف مهما كان. حتى رمي الحجارة يجب نبذه حتى لا تجد إسرائيل أي ذريعة. وتكون كل التظاهرات والاحتجاجات سلمية. حيث أن استعمال القوة يدفع إسرائيل إلى تطوير طاقاتها العسكرية والأمنية. "مكافحة إسرائيل بصفة سلمية يجردها من ذرائعها ويضعفها ويهدأ شعبها الذي سيعود حتما إلى مجالس نواب الشعب بخصوص المصالحة والسلم. أنا أنادي بالمجلس الوطني الفلسطيني الكبير وكل تمنياتي لبعثه وتشريكه في الانتخابات الإسرائيلية حتى يدخل شيئا فشيئا كثير من النواب الفلسطينيين إلى الكنيست، أين يوجد اليوم نواب فلسطينيون. وهؤلاء يتمتعون بحرية التعبير لكنهم يقع رفتهم عندما لا يحترمون هدوء الجلسات. وهذا مؤسف. ويجب أن يعتبر هذا الحزب أن دولة إسرائيل إذا كانت دولة اليهود فهي أيضا دولة الشعب الفلسطيني والمسلمين والمسيحيين أجمعين.
أما اللبنة الأولى الموجودة في مشروع الدولة إسرائيل/فلسطين المستقبلي فهي اللغتين العربية والعبرية اللتين هما لغتين رسميتين.
هاته النظرة هي ثورة سلمية حقيقية في العلاقات النزاعية بين اليهود والمسلمين والمسيحيين. وهي ثورة على استراتيجية الصراع، الذي يجب حصريا أن يكون سلميا، وأن يقوم هدفه على قلب المعطيات جذريا، ويغير نهائيا العقليات السياسية البالية للإسرائيليين والفلسطينيين. وهكذا يصبح الشعب الفلسطيني سيد قضيته وصاحب المبادرة في الكفاح من اجل الحصول على ملء حقوقه بوصفهم مواطنين إسرائيليين فلسطينيين. وهكذا تتحرر دولة إسرائيل من كابوس الدولة الفلسطينية الواهية، وتجد نفسها مجبرة على إيجاد حلول إلى التحديات والاشكاليات التي سيطرحها الفلسطينيون بعنوان مساواتهم في جميع الحقوق مع الإسرائيليين. هاته الاستراتيجية ستجعل الإسرائيليين مرغمين على اظهار حقيقتهم الأصلية. وإذا رفضت دولة إسرائيل منح حقوق متساوية بين الفئتين، على الأصعدة المدنية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية فإنها ستظهر كدولة ميز عنصري ودولة عرقية تتسم بالكراهية. أي دولة بوجه جنوب إفريقيا إلى حد 1991. ويجب على الفلسطينيين أن يثابروا كثيرا وأن يستميتوا، وينتظروا صابرين في كنف الهدوء التام على طريقة المهاتما غاندي، حتى تتغير العقليات لدى الشعب اليهودي ولدى الأجيال الإسرائيلية القادمة التي ستغير حتما وفي النهاية طرق تفكيرها وتحركاتها. وسيأخذ ذلك ربما قرنا كاملا، ولكن الأهم هو أن لا يغادر الفلسطينيون أبدا بلدهم والبقاء به متشبثين مهما كانت الآلام والإهانات والمظالم التي يقوم بها العدو المستبد.
وقد اعترف محمود عباس في كلمته التي ألقاها في رام الله أمام المجلس الوطني الفلسطيني يوم 14/01/2018 قائلا: " نحن هنا وسنبقى هنا، ولن نعيد نفس الأخطاء المرتكبة في 1948 و1967". ما هي هاته الأخطاء؟ بالتأكيد مغادرة آلاف الفلسطينيين لبلدهم عند احتلال أراضيهم من طرف الجيوش اليهودية. ويأتي وعي عباس متأخرا جدا بضرورة البقاء على الأرض وعدم مغادرتها خلال الصراع بين الشعبين على الوطن وذلك مهما كان الثمن. أي شعب يختار مغادرة وطنه ولو كان ذلك تحت الاضطهاد والقمع والإبادة، يكون هو الخاسر الوحيد، وسيبقى لاجئا لدى مخيمات الدول الأجنبية يتوسل لنيل مساعدة المجتمع الدولي. وسترفض دول الاستقبال حتى إن كانت عربية منحهم أي امتياز أو ادماجهم أو تجنيسهم أو مساواتهم مع مواطنيها. جل الدول العربية لم تكن مضيافة للفلسطينيين ولا تمنح الجنسية للإخوان العرب الآخرين، خاصة الفلسطينيين. وهم يرفضون ادماجهم وتنظيرهم. وقد قام لبنان بمنع مباشرة أكثر من خمسين مهنة على الفلسطينيين. ومن حسن الحظ تفتح الدول الديمقراطية الغربية أبوابها أمام اللاجئين وتمنحهم اللجوء السياسي، وتدمجهم بعد ذلك وتجنسهم دون شروط التربص أي المدة التي يتم قضاؤها ببلد الاستقبال من طرف طالب الجنسية. هكذا هي أحكام الفصل 19 لمجلة الحقوق المدنية الفرنسية، على سبيل المثال.
في 2017 كان إسرائيل تعد 8،7 ملايين نسمة منها 6،5 مليون يهود و 1،8 مليون عرب. بينما يرتفع عدد سكان الضفة الغربية إلى 4،9 مليون نسمة و 1،5 مليون نسمة بقطاع غزة. يعني أن عدد السكان الجملي لفلسطين التاريخية هو 17،7 مليون نسمة منهم 8،2 مليون عرب و6،5 مليون يهود يعتبرون الأقلية. لهذا فإن حل الدولتين لا يخدم مصالح الشعب الفلسطيني، حيث سوف يقسم فلسطين على جزأين إلى الأبد. ولن يسمح لهؤلاء بدخول الأراضي القديمة التي أسست عليها دولة إسرائيل. بالمقابل إذا تم ادماج دولة إسرائيل واعتبارها جزءا من وطنهم فإن الفلسطينيين سيحققون ثورة استراتيجية. وبتغيير منظمة التحرير الفلسطينية إلى الحزب الوطني الفلسطيني الكبير، والتخلي النهائي والكلي على جميع اشكال العنف سيتم دعم الثقة المتبادلة بين الشعبين وتيسير عملية السلام والتعايش السلمي التدريجي. وسيشارك الفلسطينيون في الانتخابات التشريعية ويحصلون على الأقل على نصف المقاعد. ولن يقوم الاختلاف السياسي مستقبلا على أسس دينية أو عرقية بل سيقوم تدريجيا على أسس سياسية بين اليمين واليسار. كما سيعمل الناخبون اليهود أو العرب على الاختيار والتصويت التدريجي على أسس البرامج السياسية والإيديولوجية وليس على أسس الانتماءات الدينية أو العرقية. ويمكن أن نشاهد فلسطينيين ينتخبون نوابا إسرائيليين من اليسار أو لا يمنحون أصواتهم لمرشحين فلسطينيين من اليمين.
إن التخلي عن التعصب إلى دولة فلسطينية مستقلة لن تكون في الحقيقة إلا دولة تابعة لإسرائيل، سوف يجعل الفلسطينيين يعملون خلال الأجيال القادمة على قيام دولة ديمقراطية، مدنية، مختلطة وممزوجة، بقوميتين، ولها ثقافتين، وعديد الديانات، والأهم أنها دولة واحدة على وطن لا يتجزأ. وعلى مر السنين والقرون سيكون التجانس والمزج المتبادل للشعبين الإسرائيلي والفلسطيني سيصبح واقعا محتوما وسيعم السلام والرخاء والازدهار في "فلسطين-إسرائيل" وفي كامل الشرق الأوسط.
كتب هذا المقال وباللغة الفرنسية، الأستاذ كمال الشعبوني، في تاريخ 30/01/2018 بصلازي من جزيرة لاريونيون. وأرجو أن يغفر لي إن كنت قد ترجمته بصورة شبه كلية، وعرض ملخص طويل منه لفائدة قراء "الحركة الوسطية الديمقراطية" وأخيرا لنقده أو تأييده عند الحاجة. وقد مكنني هذا الشغل من التعمق في مقترح الدولة الواحدة، ورغم ان الكثير من الشخصيات العالمية قد سبق أن قدمت طرحا شبيها. ولعل ذكر مقترح الزعيم الليبي الراحل معمر القذافي حول "إسراطين" يكون فيه إفادة. وإن لم يتطرق صاحب المقال إلى عديد المسائل مثل "حق العودة" أو "مشروع إسرائيل الكبرى" أو "اليهود تحتل أرضا عليها شعب"
الكل يعرف كيف كان ذلك عندما قررت منظمة الأمم المتحدة أن تمنح إلى اليهود فرصة " أرض بلا شعب إلى شعب بلا أرض"
وكما يبدو القول سهل فهل سيكون الفعل كذلك...وهل لنا ان نصادر حق الفلسطينيين في اختيار طرق كفاحهم من أجل استرجاع وطنهم المغتصب تحت أنظار المجتمع الدولي. ومن الذي يقدر على الحكم على أخطاء الفلسطينيين إن كانت هناك أخطاء.
المقاهي تعج بالكفاءات وكبار الوطن بينما تشكو الحكومة من الرداءة والتعاسة...
تحية حارة للأستاذ كمال الشعبوني. وإلى اللقاء.
نجيب حجري
الحركة الوسطية الديمقراطية
أريانة في 03 نوفمبر 2018.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.