أظن أن أول ملف يجب أن تكون له الأولية المطلقة لدى السيد باجي قائد السبسي الوزير الأول المؤقت هو ملف الأمن لأنه ملف أساسي.. وحيوي.. وترتبط به كل الملفات الأخرى دون استثناء.. فلا اقتصاد.. ولا تجارة.. ولا إدارة.. ولا سياحة.. ولا دراسة.. إلا وكان الأمن عمودها الفقري.. وهذا الملف لم يعالج منذ ثورة 14 جانفي معالجة شاملة وكل ما تمّ بشأنه لم يكن غير ملامسات.. ومقاربات.. واجتهادات لم تكن كلها للأسف الشديد في الاتجاه السليم.. بل ربما عفّنت الجراح.. وزادت الطين بلّة.. وفجّرت ما كان يجب أن نتحاشاه على الأقل في الظرف الراهن وهو ظرف كما يعلم الجميع متفجر.. ومشحون.. ودقيق.. وحسّاس.. وقد قيل ما قيل في الأمن ولكن ليس كلّ ما يقال في هذا الشأن صحيح.. وسديد.. وصائب.. ومنطقي.. ويجب أن يلقى الاهتمام.. والآذان الصاغية.. إن الكثير مما قيل إنما هو من باب التنفيس.. أو اللغو.. أو التعبير المتسرّع الذي لا يمكن أن تقوم عليه عمليات التصحيح والمراجعة وإعادة النظر.. إن هذه العمليات يجب أن تضع مصلحة البلاد العليا في الاعتبار وأن تخضع لمنطق الاصلاح لا الانتقام.. والبناء لا الهدم.. والمساءلة لا الاقصاء.. ثم أن الإصلاح لا يعني الانطلاق من الصفر.. و«فسّخ وعاود».. و«كسّر وهدّ».. إنه يعني في هذا المجال بالذات استبدال منظومة قديمة ثبت فسادها وعقمها واستبدادها وتغوّلها.. وسطوتها القاهرة بمنظومة جديدة تستمد فلسفتها وروحها وتوجهاتها من حقيقة مؤكدة وهي أن لا سلطة إلا للشعب.. وأن لا سيادة إلا للشعب.. وأن الدولة ماهي إلا خادمة للشعب وبالتالي فإن كل أجهزتها يجب أن تكون في خدمة الشعب فلا تقهر المواطن.. ولا تذلّ المواطن.. ولا تحتقر المواطن.. ولا تتحدى المواطن.. ولا تستخف بالمواطن.. إن المنظومة أو «السيستام» الجديد يجب أن يقوم على مبدإ: «الشرطة في خدمة الشعب».. ذلك هو ما يجب أن يتغيّر في العقلية الأمنية.. وهذا ممكن ومقدور عليه ويمكن الوصول إليه عبر التعليمات واللوائح والتوصيات وبرامج العمل والممارسة.. ودون الدخول في «حرب» مع أجهزة الأمن وهي «حرب» مخسورة مسبقا ولن تبتعد بنا عن مناطق التوتر.. ولن تحمينا من الوقوع في «الحفرة» التي أشار إليها السيد الباجي قائد السبسي في ندوته الصحفية الأولى بقوله إن البلاد على «شفا حفرة».. مرّة أخرى أقول أن الملف الأول الذي يستحق أن تكون له الأولوية هو ملف الأمن لأن البلاد بحاجة إلى أن تستعيد استقرارها ومناخها الطبيعي الذي يشجع على العمل والانتاج والاستثمار.. لقد استطاع السيد فؤاد المبزع رئيس الجمهورية المؤقت والسيد الباجي قائد السبسي أن يعيدا الأمل الى النفوس وأن يفتحا الطريق أمام الناس.. ولكن عليهما الآن أن يخطوا خطوة أخرى في الاتجاه الصحيح والسليم وذلك بإعادة قطار أجهزة الأمن الى سكته المعتادة فينطلق على أسس جديدة.. وبفلسفة جديدة.. ومنظومة جديدة.. ولكن دون أن نفرّك القطار.. ودون أن نكسّر آلياته وأبوابه ونوافذه..