وأخيرا.. قررت الحكومة التونسية إلغاء أمن الدولة وإنهاء وظائف البوليس السياسي، وهو المطلب الذي طالما طالبت به النخب والحقوقيون والفاعلون السياسيون منذ أكثر من ثلاثة عقود.. قرار إلغاء الجهازين الأكثر نفوذا صلب أجهزة الدولة التونسية، جاء في الواقع إثر ضغوط شديدة لم تنقطع منذ انبلاج فجر الثورة التونسية، حيث كانت على لسان أغلب زعماء الأحزاب السياسية والرموز الحقوقية والمحامين، قبل أن يطالب بها "مجلس حماية الثورة" في بياناته واجتماعاته وأدبياته، رغم قلة عددها.. ولا شك أن قرارا من هذا القبيل، يمثل مدخلا صحيحا لحكومة السيد الباجي قايد السبسي، الذي بدأ رئاسته للحكومة باتهام رسمي للرئيس المخلوع ب "الخيانة العظمى"، ثم أعقبها قرار إلغاء أمن الدولة وحل وظائف البوليس السياسي، وهذا يعني رسالة جديدة للشعب التونسي ونخبه والفاعلين السياسيين وشباب الثورة، بأن مطالبهم بدأت تجد طريقها نحو التنفيذ، بكامل المسؤولية التي كان تحدث عنها في المؤتمر الصحفي.. وربما لا نبالغ إذا ما قلنا أن "سقوط" هذين الجهازين، لا يعني انتصار معتصمي القصبة والأطراف التي نادت بذلك فحسب، وإنما يعني كذلك وبالأساس، الدولة التونسية التي تضررت صورتها، وانتهكت هيبتها، ولامست مصداقيتها التراب خلال حكم الرئيس بن علي، بعد أن "تغولت" مثل هذه الأجهزة، وباتت رقما فوق معادلة الأمن والسياسة والمجتمع، بل فوق معادلات الدولة ذاتها.. صحيح أن كل الدول في العصر الحديث، تمتلك أجهزة أمن الدولة وأجهزة "بوليس سياسي"، حتى في الدول الديمقراطية، لكن الفرق الأساسي يكمن في الوظيفة والمهمة.. ففي تلك الدول، تضطلع مثل هذه الأجهزة بمهمة أمن الدولة فعلا، فلا يكون ذلك على حساب المجتمع والمواطنين، بل إن هذه الوظيفة تصب في خانة حماية المجتمع، ومن ثم الدولة من أي خروقات سياسية أو دبلوماسية أو أمنية أو غيرها، في إطار من القانون، وضمن سياق قضاء مستقل يتمتع ب "الحصانة" القانونية والهيكلية في المجتمع، فيما أن هذه الأجهزة، تعمل عندنا لحماية أشخاص في الحكم، ونافذين في الدولة، بل هي تحمي في غالب الأحيان، الفساد بمكوناته السياسية والمالية و"المافيوزية"، وتتحرك بتعليمات "قيصرية" بعيدا عن القانون ومن دون أية رقابة قضائية أو قانونية أو غيرها، الأمر الذي جعلها تتحول إلى أجهزة قمع للمجتمع، ذهب ضحيتها الكثير من الشخصيات التونسية، في الحقول السياسية والاجتماعية والاقتصادية والجامعية وغيرها.. لكن قرار إلغاء مثل هذه الأجهزة على أهميته لا يجب أن يخفي عنا ضرورة محاسبة المسؤولين المورطين فيه في قضايا وملفات أفسدت حياة الكثير من التونسيين، وتسببت في تشتيت عائلات، وهجرة أسر، وضحايا ماتوا تحت التعذيب، فيما زج بالكثيرين في السجون والمعتقلات لسنوات طويلة، فضلا عن ترويع أمهات وأطفال ونساء، بعضهم ما يزال يعاني من آثار نفسية إلى الآن.. القرار مهم لكن الأهم منه، هو العدالة التي لا بد أن تكون عبر قضاء مستقل، حتى لا نداوي جروح هذه الأجهزة، بأدوية الانتقام والتشفي، وحتى لا يظلم من لم ينخرط في مثل هذه الجرائم..