سألني البارحة أحدهم في رحاب مقر جمعية قدماء الصادقية بنهج دار الجلد عند الحديث عن فقيد الوطن مصطفى الفيلالي: " لماذا كان الرئيس بورقيبة يستنجب من بين أعضاده العديد من خريجي شعبة الآداب من أمثال سيدي مصطفى ولامين الشابي ومحمود المسعدي؟، فأجبته على الفور: " لعله كان يدرك جيّدا أنّ هؤلاء أقدر على حلّ المسائل المختلفة التي يمكن أن يواجهها رجل الحكم". وأردفت: " خذ مثلا أحد قدماء مدرستنا وخرّيج آداب مدرسة المعلمين العليا المغفور له محمّد الصيّاح فهو إلى جانب الأديب محمد مزالي وزير التربية الوحيد من ضمن وزراء بورقيبة الذي تحمّل أعباء وزارة التجهيز ثلاث مرات، ولقد أدلى كبار المهندسين بتلكم الوزارة بشهاداتهم التقديرية لأقدر وزير عملوا تحت إمرته إذ كانت له إلى جانب طاقة مرتفعة للعمل، قدرة عجيبة على استيعاب أعقد الملفات الفنيّة. هذه المواصفات يمكن سحبها على كلّ الأسماء المذكورة أعلاه ونظيف إليها اسمي أديبين: علي البلهوان أوّل شيخ منتخب لمدينة تونس بعد الاستقلال وأحمد بن صالح صاحب الحقائب السبعة : الاقتصاد – المالية – الفلاحة – التجارة – الصناعة – الاستثمار والتربية خلال العشرية (1961-1970). هذه الخصال هي ذاتها التي تحلى بها الأستاذ مصطفى الفيلالي الذي انصهر منذ بواكير الثورة – ثورة عام 1952- في الحراك الوطني في جناحه النقابي بقيادة شهيد الحركة الوطنية فرحات حشاد ، ثمّ انخرط عند انعتاق البلاد من قبضة المستعمر -إلى جانب رفاقه في الاتحاد- في بناء الدولة الحديثة. لقد أوكل له الرئيس بورقيبة في هذا المضمار مسؤولية النهوض بقطاع الفلاحة وهو القطاع الأهمّ وقتئذ في منظومة الاقتصاد وسي مصطفى كان بالطبع يدرك ربّما أكثر من غيره وهو الذي ينحدر من منطقة جلاص -وهي التي يشار إلى فرسانها بالأشاوس- أنّ الاستعمار انسلّ إلى بلدنا من خلال تملكه لهنشير النفيضة، فلقد سبق المعمّر الفرنسي الجندرمي والقسّ. لقد عمل الوزير وهو الذي لم يتجاوز عمره خمسة وثلاثين عاما في العام الأوّل من أوّل حكومة بعد الاستقلال على فكّ القيود على المنظومة الزراعية بتهيئة الأسباب لحلّ الأحباس. ولو أنّ سيدي مصطفى راجع نفسه - جزئيّا - في حوار تلا تقديم كتابه: "موائد الانشراح" الذي قدّمناه في رحاب المكتبة المعلوماتية بأريانة عام 2011. ثمّ من بعد ذلك تقلّب الفيلالي في مسؤوليات بعيدة كلّ البعد عمّا كان يشتغل عليه في سنوات الدراسة في رحاب جامعة السربون في مجال اللغة والحضارة العربية، فلقد ترأّس لفترة مركز الدراسات الاقتصادية والاجتماعية، ثمّ لفترة أخرى مكتب منظمة العمل الدولية بالجزائر، ثمّ الهيئة الدائمة للتعاون الاقتصادي لبلدان المغرب العربي التي أعدّت كمّا هائلا من الدراسات التي وضعت جلّها في الرفوف، ولعلّ الصديق الطيب البكوش المؤتمن اليوم على مستقبل الاتحاد المغاربي يلتفت إلى هذا المخزون عند تكريم الفقيد وهو أحد رجالات هذا الشمال الإفريقي على امتداد القرن العشرين. تعرّفت على هذا الرجل العلم عن قريب في سبعينات القرن الماضي إذ أنّه حُمّل إدارة الحزب الاشتراكي الدستوري أسابيع قليلة بعد ما وقع اتخاذ قرارات تأديبيّة ضدّ أفراد من المجموعة " المتنطّعة" للاتحاد العام لطلبة تونس، وكنت أحد الثمانية، ولكن لم يعمّر بدوره فوق هذا الكرسي المهتزّ، ثمّ التقينا في الحقل البلدي إذ أنّه على عكس الكثيرين فلقد ختم مشواره السياسي برئاسة بلدية رادس التي اختارها موطنا له طوال حياته. ولقد تشرّفت بالمشاركة إلى جانبه في المؤتمر الثامن لمنظمة المدن العربية بالرياض عام 1986 ولم أعد وقتئذ رئيسا لبلدية أريانة بل مستشارا لرئيس الجامعة الوطنية للمدن. ولقد لفت نظري شغف سي مصطفى بالمطالعة فلم يك ينقطع عن القراءة طوال السفرة وإنّي إن كنت أنسى فلن أنسى ذلك المشهد والرجل منغمس في التلاوة في ركن من أركان البيت الحرام بمكّة المكرّمة. كتاب الله الذي يقول عنه في توطئة روايته " مانعة " الصادرة عن دار الجنوب سنة 1983: " كتاب منزّل قضى فيه صاحب الوحي أن يستند الإيمان إلى النظر في المحسوسات الكونية وأن يتدبّر العقل فيما يسكن هذه الكونيّات المألوفة من دلالة شاهدة على مكشوفات الغيب". إذن هي ذا " مانعة " أو مذكرات من أيّام قرية الجبل على مقاس من "أيّام عمران" لمحمود المسعدي (1911-2004) الذي تتلمذ إليه الفيلالي في الصادقية. هو عود على بدء، فهذا الأديب يرتدي في الفصل الأخير من عمره المديد عمامة الكاتب بعد ما اكتوى بنار الكتابة في فتوّته عندما كان يصول في مجلّة " المباحث" لصاحبها محمد البشروش (1911-1944) ويمضي بأسماء مستعارة: سامي أو الورّاق. كما أنّ الفيلالي الذي اشتغل مذيعا بالإذاعة التونسية قبل أن يدير قسمها العربي سنة 1955، كان مولعا بالتأليف المسرحي، يقول توفيق بكار الذي قدّم هذا النص المنشور في سلسلة " عيون المعاصرة" : لقد سمعت له في شبابي على الأمواج تمثيلية له والبطل طيّار يحادث رفيقة له عن المقام في الأجواء، ولم يكن لنا طيران في ذاك الزمان ولا نوتي ولا مضيّفة ". " مانعة" هي بحسب المرحوم توفيق بكّار -كبير نقّاد الأدب في تونس والعالم العربي: " حدث روائي ونصّ علامة في مسيرة آدابنا " فهو نصّ يحمل في طيّاته أفكار الفيلالي في مسائل الدين والدنيا وهو -أي الرّاوي- يعتمد في كلّ ذلك على شخوص روائية يشبهون أبطال نصّي " حدّث أبو هريرة قال " و" السدّ" لمحمود المسعدي. ويختم بكّار حديثه عن حديث الفيلالي " من قرأ هذه القصّة أيقن أنّ شعب تونس يفني الحضارات في ذاته ولا تفني له ذاته. أرضها تذيب في أتّونها كلّ وافد، ومن كلّ معدن تصنع فولاذها، فتزول الأعراض ويبقى الجوهر". من بين بنات أفكار المؤلف الجسور هذا السجال بين " الطيّب والحسين". - " الذين استنصروا بالدين لنيل السلطة ينقلبون عليه يوم الفوز بها ويسخّرون تعاليم السماء للفوز بمتاع الدنيا. - وعلى كلّ فنحن في هذا السفح نعيش في ظل سيدي علي -إشارة إلى سيدي علي بن نصر الله- دكتاتورنا الصالح -في إشارة إلى المستبدّ المتبصّر- مثلما كان ينعت الرئيس بورقيبة. - وليّنا ليس دكتاتورا - ولكنّه يجمع بين السلط كلّها: سلط السماء وسلط الأرض. رحم الله سيدي مصطفى الفيلالي وحقّق رجاءه مثلما جاء على لسان "البرني" أحد أبطال روايته: " رجائي من الله أن يلحقني بزمرة الصالحين يوم توضع الصروف في كفّة الميزان ".