تعيش تونس مخاضا عسيرا على جميع المستويات فمن الواضح أننا اكتشفنا بشيء من التأخير أن الخراب يلف المكان والإنسان... لم ينج أحد من البنفسجية والنوفمبرية إلا ما رحم ربك... حتى حواجز الطرقات والجسور طليت بالبنفسجي وطال الغسيل العقول والتاريخ والأغاني وأناشيد الأطفال في الرياض والمدارس... لم ينج من موجة البنفسجة سوى القليل، قاوم البعض ودفع الثمن من اللحمة الحية واكتفى كثيرون منا بأضعف الأيمان، كتبنا قدر الإمكان في التنبيه إلى مواطن الخلل في مجالات الفنون والثقافة واحتمينا بخوفنا من يد غاشمة تطول كل شيء... ولذلك مهما اختلفنا مع من دفعوا الثمن في الزمن البنفسجي فإننا نحتفظ لهم بالتقدير اعترافا بشجاعتهم وثباتهم... ولا يعقل اليوم أن توجه لهؤلاء السهام وأن يتم تعقبهم بحثا عن زلة ما أو هفوة ما... نتذكر في ما نتذكر أن الإذاعات كما التلفزات لا تسلط ضوءها ولا تمنح مصادحها لفئة من الفنانين المنعوتين بأنهم ملتزمون إلا عند النكبات والكوارث الطبيعية وبمناسبة قصف غزة أو بيروت أو بغداد لتصبح قنواتنا ثورية بالمناسبة وحين تهدأ الأمور يختفي الالتزام في معناه المباشر البسيط باعتباره التزاما سياسيا لا فنيا ويعود نجوم الأيام العادية ليرتعوا في سهرات السبت وعشويات الأحد حتى أن الزين الصافي لم يخف استغرابه حين استضيف في قناة 21 _سابقا_ دون أن تكون هناك حرب أو فيضانات... أما في مهرجاناتنا الصيفية وهي بالمئات فلا صوت يعلو على صوت "الجمهور عايز كده" وبات القلة من المديرين ومنظمي المهرجانات من المؤمنين بالفعل الثقافي مشروعا حضاريا بين المطرقة والسندان... فالجمهور غائب في جل الأوقات عن مقترحاتهم الملتزمة المغايرة للسائد وسياط النقد تنهال عليهم من هنا وهناك... في تلك الظروف نفهم جيدا كيف خرج المختار الرصاع من شباك مهرجان المدينة مرغما ولماذا توقفت مهرجانات الإنشاد والموسيقى الآلية والموسيقى الروحية لجمعية أحباء الإبداع الموسيقي ونفهم سر إقامة أنور ابراهم خارج تونس واعتزال محمد زين العابدين العروض الموسيقية وإن ظل على ثباته في تقديم البديل من مواقع أخرى ونجد ألف عذر لعادل بوعلاق والبحث الموسيقي والهادي قلة ومحمد بحر...لأنهم صمتوا أو هجروا الغناء وحتى البلد... كانت الثقافة أداة في خدمة المزاج البنفسجي في غالب الأحيان ولا عزاء لمن اتخذ من الخط المعاكس نهجا له من فاعلين ثقافيين ومبدعين مسرحا وغناء وشعرا وسينما التي مثلت رغم كل ما يقال جبهة تصد عصية أمام الدعاية البنفسجية... والآن وقد عاد الحق إلى أصحابه أو كاد وعادت تونس إلى أبنائها هل يمكن القبول بمواصلة التمشي ذاته؟ هل يعقل أن تظل المهرجانات كعكة تقتسم بين المرضي عليهم أما الآخرون فلا ينالون سوى الفتات؟ هل يتعين بموجب المنطق الثوري أن تعج مسارحنا بالفرق الموسيقية والمسرحية حاملة الشعارات السياسية وإقصاء من خالفها؟ إننا أحوج ما يكون اليوم إلى ثقافة جديدة تعطي الأولوية للنغم الجميل والشعر الجيد والمسرحية المتميزة فنيا والفيلم الجريء الذي يخترق التابوهات بأسلوب فني متقن... لا تكفي الشعارات لصنع ربيع الفن كما لا تصنع الخطب الثورية ثوريين... إن وزارة الثقافة مدعوة إلى أن تبادر هي قبل غيرها بفتح حوار وطني حول السياسة الثقافية خلال المرحلة القادمة فليس جوهر المشكل من يتولى إدارة ذلك المهرجان أو غيره... علينا قبل كل شيء أن نضبط معا أي مشروع ثقافي نتبنى لتكون تونسنا غير التي أرادها الجنرال المخلوع ومن معه...