صدر منذ أيام، في مطلع هذه السنة 2019 عن مطبعة "الساتباك" بتونس، كتاب جديد بعنوان "مذكرات مبتورة" انتظرناه كثيرا وحصلنا أخيرا على نسخة منه مهداة من قبل صاحبته الدكتورة عطف بن محمود. والحقيقة نقول "صاحبته" وليست مؤلفته لأنها صاحبة الفضل في الحرص منذ سنوات على إصداره تكريما لروح مؤلفه الذي هو والدها المرحوم الأديب الكبير فقيد الإذاعة والصحافة التونسية رائد الإعلام الوطني نور الدين بن محمود. وقد كان لي شرف سابق عبر المساهمة في التعريف بهذا الصحفي الكبير عندما منحتني الدكتورة عطف سنة 2013 ثقتها الكاملة بمدي كل ما لديها من وثائق تركها والدها فانكببت على جمعها ودراستها وتحقيقها قبل نشرها في أكثر من 300 صفحة بين دفتي كتاب بعنوان "نور الدين بن محمود : علَم من رُوّاد الإعلام 1914-1990" قدم له أستاذي عبد العزيز قاسم وصدر سنة 2014 بمناسبة إحياء ذكرى المئوية لميلاد هذا المثقف الوطني الصادقي حيث انعقد يوم 14 أكتوبر 2014 بدار الكتب الوطنية لقاء بإشراف الأستاذ المرحوم محمد اليعلاوي وحضور المؤلف ومقدم الكتاب تحت رعاية "جمعية قدماء الصادقية" التي حضر ممثلا عنها الأستاذ الشاذلي بن يونس، إلى جانب العديد من المثقفين ورجال الفكر والسياسة والإعلام. وها هو اليوم الذي انتظرناه كثيرا يأتي بالخبر السار بعد أن تمكنت الدكتورة عطف بالتعاون مع الأصدقاء الأساتذة عبد العزيز قاسم وعبد الوهاب الدخلي واشاذلي بن يونس من إصدار مذكرات والدها بعنوان "مذكرات مبتورة". وهي فعلا كذلك بتلك الصفة باعتبار عدم الانتهاء من تحريرها بالكامل من قبل كاتبها لأسباب صحية قبل وفاته رحمه الله سنة 1990. وهو ما يفسر التأخير الحاصل في صدور هذه المذكرات حيث حاولت صاحبة الحق استكمالها بالرجوع إلى عدد من أصدقائه المقربين أذكر منهم بالخصوص المرحوم رشاد ثريا الذي عاجلته المنية قبل أن يفي بوعده وهو مقيم آنذاك بفرنسا. ورغم حصولها في الوقت المناسب على مساهمتين الأولى من الأستاذ عبد العزيز قاسم والثانية من الإذاعي محمد عبد الكافي المقيم باسبانيا - وهو ما مكنني من إدماجهما في كتابي المذكور الصادر سنة 2014- إلا أنها لم تنجح في الحصول على مساهمة الأستاذ عز الدين المدني إلا بعد فوات الأوان حيث وفاها أخيرا بشهادة له بعنوان "رجل استثنائي" تلقي مزيدا من الضوء على حياة المرحوم ابن محمود وخصاله وآثاره، إلى جانب نص رسالة كان وجهها إلى السيدة عطف بن محمود قبل اللقاء الذي اشرنا إليه في دار الكتب الوطنية بمناسبة مئوية المرحوم وقد تعذر يومئذ على السيد عز الدين المدني حضور ذاك الاحتفال. وهكذا أدرج السيد عبد الوهاب الدخلي هذه المساهمة في ملحق كتاب "المذكرات" فضلا عن شهادة قيّمة حررها الأستاذ ابراهيم شبوح بتاريخ 28 سبتمبر 2018 تحت عنوان "نور الدين بن محمود: فارس القلم والمصدح". وبلغة تجمع بين الأصالة والحداثة، يتدرج بنا نور الدين بن محمود من خلال هذه "المذكرات المبتورة" عبر مسالك حياته ومنعرجاتها في تونس، منذ النشأة وبداية مشاكله العائلية، ثم بداياته الصحفية والأدبية وغرامه الأول ومقاله السياسي الأول، قبل دخوله الإذاعة سنة 1938حيث عاش فترة مليئة بالأحداث والاضطرابات. وتنقل بنا صاحب المذكرات بين أوروبا وإفريقيا وطاف بنا بين المغرب والمشرق... ودخل إلى أروقة المطابع والصحف في تونس وأروقة المحاكم والسجون بها...وسرد في أسلوب مشوق الدسائس والصراعات السياسية قبيل وبعيد الاستقلال بين المتعاطفين مع الزعيم بورقيبة والمناصرين لخصمه صالح بن يوسف... وعشنا معه تاريخ المغامرات الفنية عبر قوافل الحج والنزاعات الصحفية بين النخب الثقافية والمؤامرات ومحاولات الاغتيال السياسية التي تعرض لها... وانتهت الرحلة بهجرته السرية إلى ديار الغربة في فرنسا وبداية حياة جديدة لا تقل حركية ونشاطا ومغامرات عما عاشه في تونس. تلك هي مسيرة رجل "اعترف" في النهاية انه جمع بين يديه قبل الاستقلال "الإذاعة" ومجلة "الثريا" وجريدة "الأسبوع" فاستقطب الرأي العام حوله فاحترسوا منه لان خصومه كانوا يعتبرون ذلك مرتعهم ولا يسمحون لأحد بعبوره...فأمعنوا في مقاومته بكل سلاح...بالرغم من انه لم ينضم لأية هيئة حزبية أو مؤسسة أو منظمة نقابية. جاء كتاب المذكرات في 271 صفحة من الحجم المتوسط في غلاف بنّي يجسم نماذج مقتطفة ومنسوخة من الآثار الصحفية لنور الدين بن محمود كجريدة "الأسبوع" ومجلة «الثريا". وحرر المقدمة الأستاذ القدير عبد العزيز قاسم الذي ذكّر فيها "بخطورة" هذا الصحفي المتميز. وأضاف قائلا "...تضعنا هذه المذكرات إزاء رجل حر عنيد مشاكس اصطدم بجهاز عات وعتيد... ابن محمود إعلامي طويل اللسان لاذع القلم عليم بخفايا الأشياء وكان لابد من إسكاته... وهذه المذكرات حكاية معاناة رجل مثقف ملتزم أبى أن يحنى جبهته ودفع الثمن. وتونس آخر الأمر هي الخاسر..." والى جانب شهادة من الدكتورة عطف الابنة الكبرى للمرحوم استهل الناشر الكتاب بمحطات تاريخية (مستعارة من تأليفي المذكور أعلاه) وتلخص في صفحتين مسيرة هذا الإعلامي الفذ موشحة بصورة لصاحب المذكرات، وختمه بصور تجسم مشاهد من الحفل الذي أقيم في شهر أكتوبر 2000 بديوان دار الجلد بمناسبة صدور كتاب (الصحافي والأديب نور الدين بن محمود) من إعداد الحبيب شيبوب، وكذلك مجموعة أخرى من الصور تجسم مشاهد من الحفل الذي أقيم كما ذكرنا في 16 اكتوبر 2014 بدار الكتب الوطنية بمناسبة صدور كتاب (نور الدين بن محمود: علم من رواد الإعلام) من إعداد علي الجليطي...