حينما صدر كتاب «إمرأتنا في الشريعة والمجتمع» للمفكر الاجتماعي التونسي الطاهر الحداد لقي صدى طيبا واسعا لدى الأوساط المتنوّرة من المجتمع، ثمّ واجه طيلة سنوات، وابلا كثيفا من التهجّمات والشتائم والتشويهات ضمن حملة مسعورة شبه منظمة استهدفت المفكر الاجتماعي في شخصه ومضامين مؤلفاته وأفكاره وجذور مرجعياته... ويعرف الجميع أنّ أفرادا ومجموعات محدودة وضيقة كانت تقف وراء تلك الحملة التشهيرية البائسة... كما أنّ مجلة الأحوال الشخصية في بلادنا (رغم نواقصها الأساسية وبعض جوانبها التمييزية الصارخة) قد لاقت سلسلة طويلة من التهجّمات والتشويهات المتعمّدة وكانت عرضة لحملة تشهيرية منظمة تماما نسجت خيوطها نفس تلك الدوائر التي تموقعت في خندق العداء السّافر للطاهر الحداد ومؤلفاته المتنوّرة... ولكن، رغم شراسة تلك الحملات وحقدها الفطري على النّور الساطع والانارة والأنوار.. فلقد أصبحت مجلة الأحوال الشخصية ومؤلفات المفكر الاجتماعي الطاهر الحداد جزءا عضويا من التراث الفكري والتشريعي والاجتماعي المدوّن الذي أنار الدروب المظلمة ورفع الطلاسم المدلهمّة الحالكة ووضع نهاية لسلسلة طويلة من التشريعات الجائرة والمظالم والمآسي الاجتماعية التي اكتوت بنارها الحارقة أجيال كاملة... كما أنّه في نفس هذا المضمار، لاقت العديد من من المؤلفات والاصدارات المتنوّرة الحديثة في بلادنا، نوعا من أنواع الحملات التشهيرية والتشويهيّة المتعمّدة من طرف نفس تلك الدوائر المعادية للنّهضة والنّور والأنوار... ومن بين تلك الاصدارات مؤلفات الدكتور الطاهرالهمامي والدكتور عزالدين المدني وكتاب الوزير الأسبق أحمد بن صالح على سبيل المثال لا الحصر... واليوم: عقل نسائي أصيل يتفتّق ففي خضمّ الحملات التي استهدفت ماضيا ولاحقا، رموز الثقافة الوطنية والتحرّر الفكري في بلادنا، على غرار أبو القاسم الشابي، والطاهر الحداد، والحسين الجزيري وعزالدين المدني والمنصف السويسي والطاهر الهمامي ودرّة محفوظ وعبد السلام المسدي وهشام جعيّط وفوزية فرحات وغيرهم بالعشرات، ضمن ذلك الخضمّ، تفتق عقل نسائي مثقف أصيل.. ليمزّق الصمت والتّصامت، ويزيح ستارة الطلاسم ويطلق سرا العقول وينير الدروب.. ويضع أمامنا جميعا ونحن في عصر المعرفة والعلوم والانعتاق الفكري والحضاري الكتاب الجديد للدكتورة ألفة يوسف الذي بعث الحيرة في الكثير من النفوس!! فعند انتهائي من قراءة الكتاب المذكور.. استذكرت أنّي أعرف مؤلفته منذ سنوات، حين كانت أستاذة لغة وآداب عربية، وبالتوازي معدّة لبرنامج أدبي في إذاعة المنستير.. ومنتجة لبرنامج (كتاب في دقائق) في إحدى القنوات التلفزية التونسية، وكنت شغوفا بمتابعة البرنامجين بانتظام وإنتباه شديدين... وبالرغم من أن مضامين الكتاب بجميع أجزائه لا تنطلق الا برؤية متنوّرة معاصرة من داخل الفكرالديني (وليس إطلاقا من خارجه) لقضايا الاحوال الشخصية إجمالا، وبعض المعضلات النفسية الاجتماعية من داخل نسيج المجتمع العربي الحديث... فإنّ صاحبة التأليف تعرّضت الى حملة شخصية وإعلامية مشحونة بموجة كثيفة من ظلام التشهير والتهجمات الهجينة.. بل وحتى التجريح الشخصي المقرف! ولقد سمعت بنفسي ضمن حلقة نقاش من رجال التعليم ونسائه وأقلام الأدب والفكر والثقافة كيف ان كتاب وضعته احدى زميلات المؤلفة في قفص الإتهام وكالت له وللمؤلفة نفسها وابلا من الشتائم الهجينة،، على خلفية إفتراضية بأنّ الكتاب يُشيع «العلمانية» في صفوف النساء ويحرض على التمرّد والعصيان» بل لقد وصل الأمر بأحد الحاضرين (وكان أستاذا للمؤلفة حينما كانت تلميذة في التعليم الثانوي)، إلى أن لملم كلّ تشنجاته الغاضبة.. واعتبر بكل بساطة أنّ الدكتورة ألفة يوسف تنتمي إلى «اليسار» داخل الجامعة التونسية!!؟ ... فسبحان اللّه.. لماذا كلّ هذه الحملة الصفراء من التجنّي الأصفر؟ ... أهكذا نجازي مرأة تونسية ومسلمة مثقفة وإبنة الماضي والحاضر والمستقبل في الوقت ذاته، على ما تكبدته من أتعاب مُضنية ومعاناة فكرية ونفسية حقيقية، غايتها الوحيدة فقط التعبير عن حيرة مسلمة (و»الحيرة أمّ الفلسفة»كما يقول سقراط)... واتخاذها المنهج الذي رأته مناسبا في سبيل تنوير العقول، وتخليصها من التكلس الخانق والعقلية الوثنية المقيتة!! كما أنّه ضمن السياق نفسه من الامتعاض الشخصي والحيرة الذاتية والتشهير المستبطن.. أقدم برنامج أدبي تلفزي مؤخرا في إحدى القنوات التونسية، على بلورة سمعيّة بصرية لكل تلك الانطباعات المتجنّية حين تمت إستضافة بحضور مؤلفة الكتاب... وبما انّ إعداد وتقديم البرنامج أوكلتهما القناة المعنية الى رجلين اثنين كانا معا في حالة مشتركة بارزة من الحيرة والارتباك والتوتر وحتّى الغضب فلقد كانت الاسئلة الموجّهة الى المؤلفة الضيفة توحي علنا بالاستهجان والتجريح النّاعم، بغاية الاستفزاز المجرّد والارباك والاحراج للضيفة في حين كان المنتظر أن نتمتّع بالاستماع الى حيثيات جدل فكري عميق ونقاش ثقافي وحضاري جذري، ينطلق من مرحلة ماقبل ظهور الاسلام ثم أطوار إنتشاره وتفرّعاتها ومنعرجاتها.. وصولا الى العصر الراهن وتحوّلاته... ولكن رغم الطابع «التحقيقي» الذي طغى على روح البرنامج المذكورفإنّ مؤلفة الكتاب قد توفّقت بعناء شديد وبعض اللوعة التي اكتست بها ملامحها وطبعت حتّى نبرات صوتها الى الاصداع بأفكارها وآرائها بإيمان شديد وثقة عالية في النفس وحزم متماسك وتألق جليّ واعتزاز بالذات.. كما أنّها في إعتقادي كأحد من قارئيها المنتظمين قد أنجزت على الأقل أبسط مكسب فكري ومعنوي (وهو مكسب حيوي إستراتيجي)، ألا وهو زرع بذرة الحيرة الباحثة الايجابية والفاعلة في التربة الفكرية والاجتماعية المتكلّسة القاحلة الجدباء...