وبعد الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله واله وصحبه ومن والآه، أبدأ بالترحم على روح المحتفى بذكراه مصطفى الفيلالي الذي فارقنا بعد أن توفاه الله، ونحن نجتمع إحياء لذكراه. لقد تشرفت بإلقاء هذه الكلمة التي أعددتها خصيصا للمناسبة وخيرت تخصيصها بما عرفته منه وعنه في زمن قارب الخمسين سنة جمعتنا فيها صحبة ومودة ولم تؤثر فيها طول تلك المدة ولا تقلبات السياسة التي ابتلينا بها وما يتخللها من الاتفاق والاختلاف وكانت رحمة والحمد لله! سوف أقتصر في كلمتي هذه على المدة التي خصصتها لي لجنة تنظيم هذا اللقاء، ولعلها لن تكفيني بالنظر إلى قيمة الرجل وتاريخه الحافل في شتى الميادين والأعمال التي تجاوزت نحو ثلاثة أرباع قرن من الزمن تأثر بها وأثر فيهاوبالمحيط الذي عاشه مثلما صار مع ممن سخروا حياتهم وأعمارهم لخدمة هذه البلاد. لقد عمل استاذا وكاتبا، ونقابيا ومناضلا دستوريا، قاعديا وجهويا ووطنيا، وتحمل المسؤوليات العليا في زمن النضال وفِي بناء الدولة الحديثة بعد الاستقلال، في الادارة واتحاد الشغل كما تولى الوزارة وعمل في المنظمات الدولية الإقليمية والمغاربية وساهم في كتابة دستور الجمهورية الاولى وترك بصماته في كل الميادين التي تعهد بها، وسأترك الحديث عنها لغيري ممن عايشوه أو عرفوا عنه أكثر مما عرفته من خصال. لذلك سوف أقتصر بالحديث على اهم ما عرفته ابتداء من نهاية 1971 لما كان مديرا للحزب الدستوري إثر مؤتمره المنعقد في أكتوبر سنة 1971 بعد ما كان يسمى بوقفة التأمل او بالعدول عن سياسة التعاضد التي تزعمها وأدارها الوزير أحمد بن صالح أطال الله في عمره وأبقاه. أتذكر أنه زارني ايامها في قفصة لما كنت عليها واليا، وكانت تغطي توزر وسيدي بوزيد وقتها. كانت المرة الاولى التي التقي به مباشرة وأتحدث معه بصدر مفتوح وبدون مجاملة، إذ جاء وقتها في مهمة خاصة كلفه بها الديوان السياسي، وهي تتمثل في تقييم نتائج مؤتمر الحزب الذي قسم الدستوريين إلى جناحين، اختلفا في النتيجة والمسار وأدى ذلك الى تقسيم التونسيين للمرة الثانية كما جرى في بداية الاستقلال من اختلاف حول الحكم الذاتي وهل كان خطوة للأمام أم خطوة للوراء! لقد اكتشفت يومها المرحوم مصطفى الفيلالي وكان يبدي لي أفكاره ومواقفه بدون تحفظ أو مجاملة مثلما تعود أمثاله، وصارحني بما جاء من أجله من إنطباع حصل له بعد زيارته إلى ولايات مدنين وقابس وصفاقس منتهيا بولاية قفصة التي كنت معنيا بها. أتذكر أنه قال لي يومها بأنه لم يكن مقتنعا برأي الإقصائيين من زملائه في الديوان السياسي وقتها الذين يَرَوْن في إنهاء مهام الكتاب العاميين للجان التنسيق بها، لأنهم لم يتحكموا في مواقف نواب جهاتهم في المؤتمر وقد ساندوا الشق المعارض للأمين العام الهادي نويرة وقتها بعدما انطلت عليهم حيلة تحرير المبادرة، مقدرا في ذلك حقهم في الاختلاف والاختيار الذي رأوه مناسبا تطبيقا لمقررات مؤتمر الحزب ولوائحه. لتلك الأسباب ولغيرها لم تطل مدته في ادارة الحزب وعاد إلى مواقعه مديرا للمنظمة الإقليمية للمكتب الدولي للشغل بالجزائر قبل أن تعهد له مهمة تمثيل تونس في اللجنة الاقتصادية في اتحاد المغرب العربي الذي كان مقره بتونس العاصمة وقتها. كنت وقتها انتقلت من قفصة للقيروان واليا وهي مسقط رأسه وكان زعيمها وممثلها في مجلس الأمة عنها ورئيسا لبلدية نصر الله فيها فوجدته سندا ومعينا لي في أعمالي كلها طيلة ستة أعوام قضيتها،وازددت معرفة به فيها وتوطدت صداقتنا إذ كنت لا أقطع في أمر ذي بال بدون مشورته والاستنارة برأيه عند الاقتضاء. انه لم يكن يبخل عليَّ بنصائحه المفيدة أبدا، ومن وقتها لم تنقطع صلتنا وكنا نتبادل الآراء والزيارات واللقاءات دائما، وحتى نتناقش في قراءاتنا للكتب المفيدة لنا. أما بعد الثورة التي كان متحمسا لها بعدما أنهت فترة الحكم المطلق الذي انحرف وانتهى بهروب راْسه وهو ما جنبنا مآسي ما وقع لغيرنا. لقد تعددت لقاءاتنا وقتها وكنا نحاول تنسيق أعمالنا في تلك اللقاءات التي تكاثرت سواء وبكتابة المقالات في الصحافة التي تحررت من عقالها أو بالحوارات المطلوبة منا وقتها من طرف أجهزة الاعلام. لقد فكرنا حتى في إعادة الحياة إلى الحزب الاشتراكي الدستوري بعدما تم القضاء بحل التجمع الذي لم يكن في رأينا امتدادا للحزب الدستوري الذي جمعنا، وعملنا فيه على السواء، ولكنه فكر وقدر أن سنه لم يعد يسمح له بتلك المجازفة وبقي من وقتها يعمل بما تيسر سواء بالتفاعل وإبداء الرأي في اللقاءات والصحافة والإعلام، فكان بذلك إيجابيا لما فيه المصلحة. لهذه الصفات كلها عرض عليه ذات يوم ترأس الحكومة المحايدة المعينة من طرف هيئة الحوار المتعهدة بتذليل الصعاب وذلك لتسيير الأمور مؤقتا وتنظيم انتخابات رئاسية وتشريعية للبلاد. لقد قبل بالمهمة أولا ولكنه في النهاية اعتذر لأسباب قدرها، ولكنه في كل الأحوال بقي عنصر تعديل ومصالحة وهي صفة قلت في أمثاله. وإني بهذه المناسبة لا أملك له إلا الترحم عليه راجيا من الله أن يرزق ابنه محمد وابنتيه عزة وعائشة وكل أفراد عائلته وسائر أصدقائه ومحبيه وما أكثرهم والحمد لله مذكرا بما جاء في كتابه كي نصبر: الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَٰئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157) البقرة. صدق الله العظيم والسلام عليكم ورحمة الله.