منذ أشهر لم أزر مدينة سوسة، وقد كتبنا في آخر زياراتنا لها عن مسحة الكآبة والحزن التي كانت تغطي هذه المدينة التي يدعو كل شيء فيها إلى الفرح... وعدنا إلى سوسة في زيارة كانت خاطفة، لكنها كافية لنشعر بان هذه المدينة الساحلية الساحرة قد استعادت توهجها... كانت متدفقة بالحياة، مبتسمة بل ضاحكة، نظيفة... عادت عروسا كما عرفناها، متبرجة، تواجه المرحلة بإحساس وطني عال... لم تهمل سوسة نفسها كما فعلت العاصمة التي نخرتها القذارات حقيقة ومجازا... بل بسرعة أعادت ترتيب أوراقها وغيرت شارع 7 نوفمبر بلافتة جميلة ومزوقة عليها تاريخ الثورة التونسية "14 جانفي 2011" ليزيح شتاءنا الدافىء ما تبقى من خريف نوفمبري سقطت فيه كل أوراقنا بما في ذلك ورقة الكرامة... كما غيرت سوسة حديقة "7 نوفمبر" بأخرى كتبت بخط مزوق "حديقة 14 جانفي 2011" فاستعادت الحديقة اخضرارها بعد اصفرار... هذا التحرك السريع ينم عن وعي وإيمان بالمرحلة، فيما تقضي مدن أخرى الوقت في التردد خوفا من أي مبادرة تقطع مع العهد النوفمبري، ونكاد نصدق ما يقوله شبابنا المندفع بأن "التجمع باق، وإن ذهب التجمعيون، لأن الفكر التجمعي معشش في الكثير من الأذهان التي لا تصدق أن "بن علي" هرب وأننا بصدد بناء مرحلة جديدة نريدها متوازنة، لا شرقية ولا غربية، نريدها تونسية وكفى... حدثت بعض التجاوزات في سوسة تحت عنوان "الثورة" (البناء الفوضوي، الانتصاب الفوضوي أيضا...) ولكنها حافظت على جمالها، بل صارت أكثر حياة بعد أن استعادت ابتسامتها... نريد لهذا الابتسامة التي انتزعناها يوم 14 جانفي 2011 أن تكون على وجه كل تونس، بمعزل عن الفوضى والازدحام في كل مكان... فليبادر المنتصبون الفوضاويون في "البساج" و"لافايات" و"برشلونة" بالتراجع، وليحترم التونسي الشارة الحمراء وقوانين المرور، وليفهم من يرفع "سلاحا أبيض" في وجه سيدة لافتكاك حقيبة يدها أن هذا السلوك مسيء لصورة تونس التي نتحمل اليوم جميعا مسؤولية بنائها... ليس من مصلحة وطننا أن يشتبك الإسلاميون بالعلمانيين، فالاختلاف لا يفسد للود قضية، وليس من مصلحة الوطن أن يتقاتل أبناء المتلوي بفكر "عروسي" انتهى زمنه مع زعيمنا "بورقيبة"... الثورة ليست أن يفتك صاحب الحق حقه _إن كان حقه فعلا_ بالقوة... وأخلاق الثورة تبدأ من الامتناع عن إلقاء الفضلات على حافة الطرقات وفي واجهة المؤسسات العلمية _كما شاهدنا بأم عيوننا_ حتى المشاركة الفعلية في الانتخابات الصيف الماضي... كلنا تونسيون، نتفق على الأقل في حب هذا الوطن فلنحافظ عليه...