إن من يصادق الشعراء عرضة لكل أنواع وأشكال المفاجآت : غريبها، ولطيفها، ومضحكها ، ومبكيها ، وسارّها، ومحزنها، وما على الصديق إلا تقبّل ذلك بما يجب من الصبر والتقدير، وإلا تعرّض لهجاء أو عتاب أو نقد، لاذع أحيانا، في وزن وقافية يرسخان لا يمحيهما الدهر ولا نائباته. عرفت من الشعراء الكثيرين بتونس وغيرها من البلدان العربية ، وعرفت آخرين في بلدان شتى ينظمون بلغاتهم المختلفة، فلا مجال لذكر اسماء هؤلاء ولا أولائك ، لأن القائمة طويلة ، فلا مفرّ من نسيان فإسقاط اسم أحدهم منها، وهذا لعمري ظلم كبير وخطأ لا يغتفر. لكنّي سأخالف القاعدة ذاكرا أحدهم ، ابتلاني الله بصدقاته ، وطالت صداقتنا وتوطدت، فصمدت "صمود" الأبطال ضد عواصف الأيام وتقلبات الدهر. صداقة بلغت من العمر عتيّا ، فقارب أو زاد عن الستة عقود ، فعرفَتْ القرب والهجر، والبعد والفراق ودموعهما ، ثم العودة واللقاء ببهجته وسعادته ، وهي ثابتة كأنها هرم أو ذات عماد. فهي لا تزال واقفة سائرة، بلا عصى ولا عكاز، لأنها عجين صدق وإخلاص وتقدير، رُشّ عليه مسك تطابق الآراء والأذواق. لذا ، فرغم البعاد ، إذ هو يؤلف وينتج ويجود متمتعا ب"عاصمته " قليبية الجميلة ، بينما أنا أجر أقدامي في أقصى غربي المتوسط حيث صال ابن عباد، وتعبد ابن عربي ، ونظم ابن بسام. لعل القارئة الكريمة أو القارئ المبجل قد عرفا الشاعر الذي «ابتليت» بصداقته واعنيه ، فما هو إلا صديقي الشاعر الدكتور نور الدين صمود، ذائع الصيت، مدرس العروض ، خفيف الظل قوي التعبير. اعتدنا ، دون سابق اتفاق ، تحدّي المسافات، فنبدل البعد والفراق بالمراسلة السريعة عن طريق الشبكة البديعة، حمانا الله من أضرارها المريعة. فاجأني، بعد الانتفاضة المسماة ثورة بقليل، بأربع عشرة خماسية، أقل ما أقولها عنها ، أنها جاءت في حينها ، فاثلجت صدري، فترجمتها وبعد سنوات نشرتها، دون إذن أو ترخيص، فعاقبني بصمت طويل. لكن المهم في كلّ هذا، هو ردّ فعلي السريع جاء في ما أجبته به وهو:أخي الشاعر الابداعي ، صاحب الزجل "الدلاعي" ، الذي شنف أسماعي ، فانتشيت وطربت. بعد أداء واجب التحية للشعر وصاحبه ، دعني أعلق على خماسياتك التي فاجأتني ، وأنا ضمآن فارتويت ، وأنا فاقد فوجدت ، وأنا حائر فاطمأننت ، فشكرا على ما نظمت ، وحمدا على ما أرسلت. لست مبالغا في شيئ لكني كنت ، وأنا أتابع انتفاضة شبابنا النبيلة ، عن بعد ويا للآسف ، افتقدت مساهمة عنصرين هامين هما الشعر والنشيد ، أو هم الشعراء الأدباء والفنانون ملحنون ومطربون الذين واكبوا ، وأحيانا سبقوا ، كل تحرّك شعبي في كل مكان. أنت تعرف أني ، بحكم ما فرضته عليّ الحياة وظروفها ، هاجرت وتغربت ، فعايشت وحضرت ، وشاهدت تحركات كثيرة في أماكن عدّة ، حيث رايت أن الشعراء والموسيقيين يدلون بأكبر دلو ، ويتحملون أهم دور، لإيقاد وزيادة قوة الحماس بالأناشيد والأشعار، وحتى الفكاهات والطرائف. أذكر ، من جملة ما أذكر، رغم شيخوخة الذاكرة ، كيف نظم نشيد من اشهر الأناشيد ، ولحن وسجل في ظرف ساعة داخل بهو من أبهاء محطة إذاعية. لذا افتقدت مساهمة شعرائنا وفنانينا من أول يوم اندلعت فيه ما سمّوه الثورة ، فتساءلت وسألت ، لكن لا من مجيب ، وحتى لما أشرت لذلك في أحدى المقالات التي بعثت بها لصحفنا ، تجرأ أحدهم فأزال إشارتي والله على ما أقول شهيد. لكل هذا قد جاء شعرك ، أي خماسياتك ، بردا وسلاما لتطفئ غلتي في هذا المجال. بعد هذا، هل تسمح بإبداء رايي وأنا المتطفل الدخيل على الشعر وأهله ؟ خماسياتك حسنة بليغة ، تمتاز بالسلاسة وعدم التعقيد البلاغي التعبيري ، فيجعلها هذا في متناول المختص وغير المختص ، المتضلع وغير المتضلع ، فهي إذن شعبية بالمعنى الكامل الشامل. فأول شعبيتها تكمن في أنك أرجعت للشعب سيادته ، بعد أن اغتصبوها ، بقولك سيدي الشعب ، بعد أن قالوا ورددوا " سيدي الرئيس ويا سيادة الرئيس ، الى غير ذلك من التعظيم والنفاق والتملق. ثم إن جعلك الثورة شعرا صورة حقيقية حساسة لأن الثورة ، كالشعر ، خرجت من أعماق الشعب ومن صدق مشاعره. شعب وصفته بما فيه ، فهو كالسيل ما له أي سد ، وهو تيار ، ونار ، لكنه نور وأي نور ستهتدي به البلاد في طريق نموها وتقدمها وتطورها وسيرها نحو العلا.جميل ايضا تلاعبك اللفضي والجناس وما شابهه مثل " العروض / والعِرض وغير ذلك مما يلذ سماعه وقراءته. أعجبني كذلك انتقالك من وصف التضحية ووجوبها إلى جعلنا ، نحن البقية التي لم نساهم فعليا ، أو قل نحن الشيوخ ، نصبح فيك الشعب/الشباب شموعا ننشر نورا مأخوذا من تجاربنا وخبراتنا ، المرة أحيانا ، ثم تعتذر ، باسم الجميع ، وهذا لعمري واجب أخلاقي لأننا ، كما قلت وأجدت ، ظلمنا شعبنا ، أي شبابنا ، فحسبناه قطيعا وجموعا بلا أفهام ، فإذا هو جِدّة واعتزام ، وإذا به قائد وقدوة وإمام. ولعل أجمل صورة هي تلك التي حولت فيها النار إلى نور : في حمانا أشعلت نفسك كي تكتسي بالضياء كل الربوع فاعف عنا ايها الشعب ، ايها الشباب إذ ظلمناك فحسبناك كالقطيع ، وخذ وصف هذا الشاعر برهانا على صدق توبتنا ، وصف زاده قوة وتعبيرا اقتباسه مما قيل قديما : مقبل ، مدبر ، مكر ، مفر ، مثل الموج ومثل السيل يجرف الصخر لأنه قدر لا يرد . لكن دعني ختاما لهذه العجالة أتساءل: هل سيستمر شعبنا هذا ، شبابنا اليقض محافظا على ما أنجز ؟ إني أرى الانتهاز ، والتسيس ، وركوب الموج ، والنفاق ، وكل مساوي الماضي تعود إلى الساحة فتهدد الثورة وشبابها بالخطر الكبير والانحراف الأكبر، فهل من ثورة على كل هذا ؟ أعتقد أن الظرف والتغيرات تحتم على المثقفين إعلاء الأصوات ، وتذكير الناسين ، وتحذير المغترين ، عسى أن ينقذ ما يمكن إنقاذه. هذه الرسالة ، أو هذا النقد ، أو هو تعليق على خماسيات الثورة التي نظمها الشاعر الصديق الدكتور نور الدين صمّود ، تعود إلى يوم 8 ماي سنة 2011 أي إلى ثماني سنوات مضت ، سالت بعدها مياه وأنهار، وهبّت الأرياح وهطلت أمطار، ولا تزال أمورنا تتعثّر، ووضعنا الاجتماعي الإقتصادي يتدهور، و"الأفذاذ" الذين ركبوا السفينة في شجارهم ومنافستهم وجريهم نحو المجهول يعمهون. لم أكن قط متنبئا ، ولا ادعيت رؤى المستقبل أو تكهّن المجهول ، لكن شعوري بخشية ما تحسّست ظهوره ورأيت رؤوس نبتاته تبرز في أرض الانتفاضة ، هزّ كياني فسألت صديقي الشاعر علّه ينيرني فيخفّف من خوفي وقلقي ، لكنه سكت وصمت ، والشاعر الآخر – لعله ميخائيل نعيمة – يقول: إنّ للصمت في المآتم معنى * تتعزّى به النفوس الحزينة. هل نحن نحيى مأتما حقا ؟ هل ماتت فعلا كلّ تلك الآمال ، هل خبت كلّ تلك الطموحات ، والاستعدادات لما هو أفضل آت ، هل ضعفت الإرادات ، هل انحطت النفوس الشامخات ، التي قال عنها الشاعر صمّود : فتسامت إلى السماء نفوس * وتعالت بالشعر كلّ الحناجر. فها هي الآن صامتة خاشعة ، والشعب منشغل بانهيار سعر ديناره ، فصمت بعد أن كان : سيدي الشعب أنت صوت ينادي * ويغني بساميات المبادي.كثرت تساؤلاتي واشتدت حيرتي ، وما هي إلا ظل حيرة الشعب ، وصدى تساؤلاته حسب ما أقرأ واسمع ، فطغت عادتي بالرجوع إلى ما أحتفظ به من مذكرات وقصاصات ومقولات ، فوجدت تصريح السيد آلان بجّاني ، الخبير الفرنسي ، أعلنه في ملتقى مدينة دافوس الاقتصادي " السياسي " ونصّه:" إن نجاة العالم العربي لن تأتي من الحكام ، بل على أيدي القطاع الخاص" ، وتونس ، حتى الآن ، من وضمن العالم العربي ، وما القطاع الخاص إلا الشعب ، فلا نجاة إلا على أيديه وسواعده. فهل يتركوه يعمل ؟ أم عليه أن يعيد الكرّة ، ويجدد الانتفاضة ، ويبعث الثورة بثورة ؟