خلال السنوات الثماني من عمر الثورة استضافت مؤسسة التميمي للبحث العلمي والمعلومات في إطار ندواتها الأسبوعية لحفظ الذاكرة الوطنية الكثير من القيادات النهضوية واستمعنا إلى أبرز الرموز المؤثرة في حركة النهضة مثل رئيس الحركة الأستاذ راشد الغنوشي ، الأستاذ حمادي الجبالي رئيس الحكومة في فترة حكم الترويكا و الأستاذ سمير ديلو وعبد اللطيف المكي وكانت كل هذه اللقاءات مع هذه الشخصيات الإسلامية مهمة للتعرف على الكثير من القضايا المتصلة بالحركة الإسلامية في تونس وبموضوع الإسلام السياسي وتجربة الحكم بعد الثورة وكل التقلبات التي عرفتها الحركة بعد رحيل نظام بن علي ولكن الندوة التي أثثها القيادي في الحركة لطفي زيتون في مؤسسة التميمي يوم السبت 6 أفريل الجاري لم تكن كسابقتها وكانت فارقة ولم تكرر ما استمعنا إليه في السابق فلطفي زيتون قد فاجأ الجميع بما قدمه ما رؤى و أفكار وتصورات في غاية من الأهمية نتوقع أن الاطلاع عليها سوف يكون له تداعيات كبيرة وبسط تصوراته الفكرية حرك بها كل الراكد وكل الساكن من القناعات الدينية وحملنا إلى فضاء ثقافي آخر لم نتعود على سماعه من قيادات في حركة النهضة . في هذا اللقاء تحدث لطفي زيتون عن انتمائه العائلي وعن أصوله البربرية الأمازيغية رغم أنه من سكان حي من أحياء العاصمة في المدينة العتيقة قرب جامع الزيتونة وعن عائلته المحافظة المتدينة وتحدث عن الوضع العام بالبلاد في بداية الستينات والسبعينات من القرن الماضي و عرج على نضال والده الذي كان نقابيا قاعديا و دستورا من انصار الرئيس الحبيب بورقيبة وكيف كان العمل النقابي لوالده سببا في اهتمامه المبكر بالسياسة وتعرفه على ما يدور من قضايا في البلاد وخاصة تعرفه على الصحافة المعارضة من خلال ما كان يقرأه لوالده في جريدة الشعب والرأي وتناول مطولا الخطوات الأولى التي قطعها في تحويل وجهته نحو العمل الاسلامي وانتمائه إلى حركة الاتجاه الاسلامي التي فتحت عينيه على عالم آخر شكلت وعيه المبكر. يقول لطفي زيتون في هذه المرحلة كنا نلتهم الكتب التهاما وكانت مطالعتنا مفتوحة على كل ما ينشر فقرأت كتب سيد قطب ومحمد علي قطب والمودودي وحسن البنا مع كتب علي شريعتي الشيعي اليساري المسلم وكتب باقر الصدر الشيعي " فلسفتنا واقتصادنا " بالتوازي مع هذا قرأت كل روايات نجيب محفوظ باستثناء روايته أولاد حارتنا الممنوعة من الأزهر التي قرأتها في مرحلة لاحقة وتوفيق الحكيم وقد دوخني كتابه أهل الكهف التي قرأته أكثر من مرة وهذا يعني أن الجيل الأول من أبناء الاتجاه الاسلامي كان تكوينهم موسعا وبعيدا عن الانغلاق والموانع. في هذه الفترة طرح على الحركة موضوع التغيير الاجتماعي وموضوع كيف نصلح المجتمع؟ فكان مشروع الأوليات في سنة 1986 الذي أشرف عليه الأستاذ علي العريض قد اشتمل على عدة ورقات بحثية تتعلق بالتغيير من مدخل سياسي ومن مدخل ديني ومدخل ثالث ثقافي و من خلال هذا العمل تم الاستنجاد بعدة مراجع فكان الاطلاع على كتاب مقاصد الشريعة الإسلامية للشيخ الطاهر بن عاشور وكتاب الموافقات للشاطبي ومن هنا تعرفت الحركة على الفكر المقاصدي الذي قربها من مدرسة اليسار الإسلامي وهي التجربة الاسلامية التي بدأت مبكرا تطرح قضايا جديدة وهو تيار كان يقوده حميدة النيفر وصلاح الدين الجورشي وزياد كريشان وشكيب الفضيلي ومحمد القوماني وقد دخل في خلاف فكري وتنظيمي مع الحركة. بعد هذه المرحلة التي تخللها حديث لطفي زيتون عن مواجهات حصلت مع السلطة الحاكمة وعن محاكمات طالت الكثير من الاسلاميين وعن الدور الذي لعبه بدرجة أولى محمد مزالي وبدرجة ثانية وسيلة زوجة الرئيس بورقيبة في التقريب بين الاسلاميين وبورقيبة والوصول إلى انفراج في الوضع السياسي، تأتي مرحلة مهمة سوف يكون لها وقعها الكبير في مسيرة لطفي زيتون ومشوار آخر من حياته لعله الأهم والأبرز في نحت شخصيته وسوف تكون نتائجها واضحة على ما يعيشه اليوم من وضع داخل حركة النهضة هذه المرحلة هي ما تسمى بمرحلة المهجر بعد أن اضطر الى مغادرة البلاد نتيجة عودة التضييق على الاسلاميين بمجيء بن علي الى سلطة اثر انقلاب طبي على الرئيس بورقيبة وقد عرفت السنوات الأولى من حكمه انفراجا في مجال الحريات لتعود القبضة الحديدية للنظام بعد أن تحسس قوة الاسلاميين من خلال تجربة الانتخابات التي حصلت سنة 1989 والتي حقق فيها الاسلاميون نتائج غير منتظرة بدخولهم في قوائم مستقلة مثلت المنعرج في علاقة السلطة بحركة النهضة ليعود الصراع من جديد . استقر زيتون ببريطانيا بعد محطة قصيرة قادته إلى الجزائر وهناك حصلت الصدمة الفكرية الثقافية التي نحت شخصية لطفي زيتون حيث تفطن إلى أنه لم يكمل دراسته الجامعية بعد أن اضطر إلى الانقطاع عنها في تونس نتيجة الملاحقات الأمنية والعمل الحركي السري الذي توخته الحركة فقرر إكمال التعليم الجامعي في دراسة اللاهوت بإحدى جامعات انقلترا و قد كانت الجامعة تابعة للكنيسة ويشرف عليها قساوسة ويبدو أنهم استغربوا طلب التحاقي بجامعتهم فكان أن دعاني قس لمعرفة دواعي التحاقي بجامعة مسيحية ودراسة علم اللاهوت وبعد نقاش معه نصحني أن أغير وجهتي نحو العلوم السياسية ودراسة التاريخ السياسي وقال لي هناك سوف تعلم لماذا حصل لك ما حصل ؟ ولماذا أنت هنا؟ قبلت النصيحة ودرست العلوم السياسية ومن هنا حصلت لي صدمة كبيرة عرفت بعدها أن أغلب ما قرأته بالعربية وكل ما طالعته في تونس كان مستنسخا بصورة مشوهة ومستمدا من كتب المفكرين والفلاسفة الأوروبيين. لقد اكتشفت أن مفكرين كبار قد نقلوا مقاطع بكاملها من مؤلفات غربية من دون الاحالة على اصحابها ومن دون ذكر المصدر الذي استقوا منه ما كتبوه لقد اكتشفت الثراء الكبير الذي تتمتع به المكتبة الغربية وعمق ما كتبه مفكروها. في هذه المرحلة التي دامت قرابة العشرين عاما انهيت خلالها دراستي في العلوم السياسية وكانت فرصة للحوار والنقاش والتفكير والمراجعات بعد أن نظمنا ندوة متواصلة احتضنها بيتي وضمت العديد من رموز المعارضة العربية و كان من بينهم راشد الغنوشي و سمحت بإعادة النظر في الكثير من المقولات التي كانت بمثابة المسلمات ناقشنا موضوع علاقة الاسلاميين بالدولة ومسألة التغيير باستعمال العنف ومسألة الديمقراطية والعلمانية وغير ذلك من القضايا التي لم يسمح المناخ التونسي بطرحها بكل هدوء وعمق فكانت النقاشات التي حصلت في المهجر مفيدة جدا في تطوير فكر حركة النهضة والقيام بالكثير من المرجعات الفكرية . أما المرحلة الأخيرة فهي مرحلة الثورة والعودة إلى تونس ومرحلة التأسيس الجديد للجمهورية التونسية بعد الاتفاق على مراحل الانتقال الديمقراطي وبعد خوض تجربة الانتخابات الديمقراطية وما تولد عنها من فوز حركة النهضة وخوض تجربة حكم صعبة للغاية عاشت خلالها البلاد تقلبات كادت تعصف بكل المسار الديمقراطي . عن هذه المرحلة يقول لطفي زيتون أنه كان ضد مشاركة النهضة في الحكم وكان يرى أنه عليها أن لا تتحمل كامل المسؤولية بمفردها لقلة الخبرة والتجربة وقلة الدراية بدواليب الدولة بل أكثر من ذلك فقد كان يطرح تصورا آخر ورؤية جديدة لمآل حركة الاسلام السياسي الذي تنضوي تحته حركة النهضة حيث يعتبر أن فكرة الاسلام السياسي قد انتهت بتحقيق مبتغاها وهي تحقيق الحريات بالتخلي عن منظومة الاستبداد وبإسقاط النظام القديم وعليه فإن مرحلة ما بعد الثورة تقتضي أن تتخلى النهضة عن فكرة الاسلام السياسي وتختار صيغة أخرى للتواجد يراها في انقسام الجسم النهضاوي إلى ثلاثة خيارات الاول توجه فكري ثقافي والثاني دعوي خيري والثالث حزب سياسي مدني وتوزيع الاسلاميين كل حسب اختياراته وميولاته غير أن هذا الخيار لم يلق القبول والترحاب داخل الحركة وجوبه مجابهة عنيفة على اعتبار أن الحركة الاسلامية لم توجد منذ البداية لكي تنتهي في شكل مشارب ثلاثة تتنكر للمشروع الأول الذي انخرط فيه جزء كبير من الشعب وضحى من أجله الكثير من ابنائها وتحمل قسوة الاستبداد لتجد الحركة الاسلامية في النهاية نفسها مقسمة بين ثلاثة مشاريع . يعتبر لطفي زيتون أن من المراجعات الأخرى التي تبنتها النهضة في مرحلة الهجرة موضوع العلاقة مع الدولة والموقف من بورقيبة فبخصوص هذه القضية انتهت الحركة الى اعتبار أن ما حصل من صدام بين التيار الاسلامي والسلطة يتحمل في جزء منه النظام الحاكم الذي ضيق عليها واختار نهج المواجهة والإقصاء وفي جزء آخر الحركة التي ردت الفعل بدخول في مواجهة مع الدولة وتوخت أساليب تتعارض مع الأساليب السلمية في العمل السياسي والمسؤولية الثالثة يتحملها المجتمع المدني والمعارضة التي لم تفعل شيئا من أجل ترسيخ الديمقراطية وخلاصة القول فإن المراجعة التي انتهت إليها الحركة في موضوع الدولة تقول إن النهضة وقعت في نظرتها للدولة وفي علاقتها بالرئيس بورقيبة في خلط كبير حينما مزجت الصراع مع بورقيبة بالصراع مع الدولة واعتبرت أن الخلاف السياسي معه هو بالضرورة رفض للدولة والخروج عليها وكنت دوما أرى ان بورقيبة ليس هو الدولة واختلف مع كل من يصفه وينعته بالكافر وهذا الموقف من الدولة يقتضي أن تكون حركة النهضة حركة احتجاج تطالب بالمشاركة في الحكم وليس تغيير الحكم . من القضايا الأخرى التي مثلت مراجعة جذرية مسألة اعتبار النهضة حركة ايديولوجيا وقضية علاقة الدين بالايدولوجيا وكنت أرى أن الاسلام لا يمكن أن يتحول إلى ايديولوجيا وإنما هو في جوهره قيم وأخلاق وعبادات ومعاملات وسلوك وهي قيم لا يمكن أن تتحول إلى ايديولوجيا على شاكلة الايديولوجية الماركسية مثلا وهذا يعني أن الاسلام ليس ايديولوجيا في حين الماركسية هي في قلب الايدولوجيا وهذا يجرنا إلى الحديث عن موضوع العلمانية وعلاقتها بالدين وهو موضوع انتهينا فيه الى قناعة أن العلمانية الحقيقية لا تعادي الدين ولا تحاربه وإنما هي تحيده عن الصراعات السياسية وعن التدخل في الشأن الديني وهنا استحضر مقالا مهما للشيخ راشد الغنوشي في حديثه عن العلمانية الشاملة والعلمانية الجزئية وهو مصطلح جاء به المرحوم عبد الوهاب المسيري الذي تحول إلى الاسلام بعد أن كان مركسيا وتأثيره كبير في تغيير القناعات والقيام بالمراجعات في مجال العلاقة بالدولة ونظام الحكم وما يمكن قوله بخصوص هذه القضية هو أن الاسلاميين قد تأثروا بالماركسيين فحولوا الدين الى ايديولوجيا بنوا عليها تصورا للحكم والمجتمع والدولة في حين أني كنت أرى أن الاسلام هو دين ويبقى دينا ولا يمكن تحويله إلى ايديولوجيا وإنما احتاجت الحركة الاسلامية في بداياتها الأولى إلى هذه المقولة من أجل التعبئة الجماهيرية واستعمالها أداة من أدوات الصراع مع الدولة . ما حصل بعد الثورة هو أني وجدت نفسي أعود إلى زمن الثمانيات وأن عقارب الساحة قد عادت بي إلى الوراء لأجد نفسي أناقش في قضايا خلتها حسمت وحسمتها الحركة في نقاشات المهجر ورجعنا نناقش من جديد موضوع الحاكمية هل هي لله أم للشعب ؟ وموضوع الشريعة في الدستور والكثير من القضايا التي كنا نروجها في مرحلة الثمانينات وتم تجاوزها . بعد الثورة وبعد الفوز في الانتخابات دخلنا إلى الحكم وتعرفنا على الدولة وكنا نتصور أننا سوف نصوغ الحكم من جديد ونعيد بناء الدولة إلا أننا فوجئنا بوجود دولة عريقة وإدارة لها تقاليد وأعراف وتنظيم محكم فأحسسنا أننا في مكان لا نعرفه وغريب عنا فأسرعت إلى الشيخ راشد الغنوشي بعد أسبوع من تسلمنا السلطة وقلت له لقد ارتكبنا خطأ تاريخيا حينما قبلنا الحكم من دون تجربة في الحكم ولا معرفة بالإدارة التونسية والنتيجة أننا ضللنا الطريق. كان خطؤنا إلى جانب تحمل مسؤولية الحكم بكامله هو عدم توفرنا على برنامج للحكم وعدم امتلاكنا لمشروع اقتصادي واجتماعي نحكم به ذلك أن الأحزاب السياسية هي قبل كل شيء خيارات اقتصادية واجتماعية وهذا لم يكن متوفرا لما تسلمنا الحكم بعد انتخابات 2011 لذلك كان موقفي أننا نحتاج إلى فترة لإصلاح البيت وإصلاح الفكر وإصلاح الممارسة وإصلاح التعامل مع الدولة .. تيقنت أننا في حاجة الى وقت بعد غلق ملف الهوية والحريات إلى ترتيب البيت الداخلي وتحويل الحركة الى حزب سياسي بأتم معنى الكلمة له برنامجه الواضح والدقيق في جميع المجالات.