في إطار الندوات الفكرية التي ينظمها مركز الدراسات الاستراتيجية والدبلوماسية التي يستضاف إليها شخصيات وطنية ليستمع إلى وجهة نظرهم في الوضع العام بالبلاد وتقديم رأيهم بخصوص الحلول التي يقترحونها للخروج من الأزمة العميقة التي يعرفها المجتمع بعد الثورة، كان اللقاء الحواري مع السيد مصطفى بن جعفر الرئيس السابق لحزب التكتل من أجل العمل والحريات وأحد رموز المعارضة الذين لعبوا دورا واضحا في مقاومة نظام بن علي الاستبدادي ورئيس المجلس القومي التأسيسي بعد الثورة الذي كتب دستور الجمهورية التونسية الثانية 26 جانفي 2014 وأحد الفاعلين بقوة في دعم التمشي الديمقراطي بعد الثورة وبعد سقوط نظام بن علي. كان محور اللقاء الحواري الذي احتضنه نزل المشتل بالعاصمة صبيحة يوم السبت 20 أفريل الجاري الجواب على سؤال " تونس إلى أين " وكيف يرى السيد مصطفى بن جعفر المشهد السياسي الحالي ؟ وما هي فرضيات الخروج من الأزمة المركبة التي نعيشها اليوم ؟ وكيف يرى مآل الثورة بعد ثماني سنوات على قيامها في علاقة بكل دعوات العودة إلى الوراء والتراجع عن المسار الديمقراطي ودعوات تعديل الدستور وتحميله كل الفشل الذي يرافق الأداء السياسي في جميع المجالات ؟ في هذا اللقاء تحدث السيد مصطفى بن جعفر في الكثير من القضايا التي تعرف اليوم نقاشا وجدالا ومناكفات تزيد من تعميق الانقسام الشعبي وانقسام طبقته المثقفة وتهدد مساره الانتقالي بالتوقف بعد أن بدأنا نسمع أصواتا تطالب بإلغاء دستور 2014 واستعادة النظام الرئاسي ومعه العودة إلى نظام بن علي الذي قامت عليه الثورة . تحدث مصطفى بن جعفر عن الصعوبات التي تحول اليوم دون الاستجابة إلى مطالب الثورة الأولى والأصلية والتي ثار من أجلها الشعب واسقط بسبها نظام بن علي وهي مطالب اجتماعية بالأساس تلامس في العمق عيش المواطن وتحسين وضعه الاجتماعي وتحسين وضع الفقر الذي ورثناه عن نظام بن علي والذي تقول عنه الاحصائيات أنه في حدود 19 %ووضع البطالة الذي انتشر في زمن النظام السابق و نسبته تتراوح اليوم في حدود 15% وحالة التهميش التي تركها نظام بن علي مهيمنة علي المشهد العام في كامل المناطق الداخلية وهي مشاكل كلها باتت اليوم تمثل أزمة خانقة لم تحل بالقدر الكافي والمطلوب رغم الجهود التي تبذل لتكشف عن حقيقة مفادها أن أصل المشكل ليس في نقص الخبرات والكفاءات عند من يحكم وإنما المشكل اليوم هو معقد في جانب منه يتعلق بغياب الخيارات الاقتصادية الواضحة وبغياب الامكانيات المادية التي تسهل الوصول الى الحلول مع غياب المناخ السياسي الملائم الذي يجعل السياسي يركز كليا على الجوانب الاجتماعية. تحدث عن مناخ الحريات الذي توفر بعد الثورة والذي يعتبر أفضل مكسب توفر للشعب التونسي بعد أن كان يعيش على وقع صمت القبور وعلى وضعية الأبواب المغلقة والأفواه المكممة ووضع القطيع الذي ليس له غير الأكل والنوم وإتباع ما يقوله سيده لنجد أنفسنا بعد الثورة وجميع الأبواب قد انفتحت على مصراعيها ويجد الشعب نفسه قد استنشق جرعات زائدة من الاكسيجين بعد الانفجار الكبير الذي حصل في مجال الحريات التي بلغت مع حكم الترويكا سقفا عاليا لم تشهد تونس مثيلا له وحصل الانفلات الإعلامي الذي نعيش اليوم تداعياته في حصول تونس على مرتبة متقدمة في الوطن العربي وإفريقيا ومكانة مرموقة بين الدول الديمقراطية والحريات في العالم .. ولكن رغم كل ما يقال عن المشاكل التي يتسبب فيها هذا الافراط في ممارسة الحريات وخاصة في المجال السياسي والنقابي وما يحصل اليوم من انزلاق خطير في الخطاب السياسي المتسم بالعنف اللفظي والخصام غير المبرر فإنه علينا جميعا أن نحافظ على هذا المكسب لتبقى الحرية المكسب الأسمى للثورة التونسية وليبقى الانفلات محصورا في الممارسة السياسية وليس في قيام الثورة . تحدث عن تجربته في الحكم في زمن حكومة الترويكا واعتبرها انجازا مهما في الثورة التونسية وإحدى العلامات البارزة في فترة ما بعد بن علي واعتبر أن هناك تحامل مقصود على التجربة وراءه موقف ايديولوجي مسبق وقرار مبيت بعدم انجاحها وهي تجربة تعد اليوم العلامة البارزة للثورة التونسية في نظر الغرب فتجربة حكم الترويكا مع الدستور الجديد هما المسألتان البارزتان في أعين الآخرين وكل المهتمين بالثورة التونسية. وبخصوص التجربة السياسية فإنه رغم كل المواجهة العنيفة التي تعرضت إليها حكومة الترويكا وكل التشويه والمقاومة وكل محاولات الإفشال فإنه بإمكاننا اليوم أن نقول بحد أدنى من الموضوعية أنه لا يمكن مقارنة ما تحقق في حكومة الترويكا مع كل ما تحقق في الحكومات التي جاءت بعدها في جميع المستويات والأرقام وحدها تنطق بهذه الحقيقة وحتى الوضع العام يعطي الاسبقية لتجربة الترويكا التي عملت في مناخ محتقن ومتشنج مقارنة بالوضع المريح نسبيا الذي توفر للحكومات المتعاقبة بعدها وحتى الأشخاص الذين كانوا في الترويكا فإنهم لا يقلون قيمة ولا خبرة وأداء عمن جاء بعدهم بل لعلل الكثير منهم أفضل ممن هم اليوم في الحكم فقط ما يمكن أن نقوله اليوم وبعد أن شاهدنا ما يحصل في ممارسة الحكم و الأداء السياسي لكل الوزراء الذين جاؤوا بعد انتخابات 2014 أن هؤلاء لم يكونوا الافضل وأن وزراء الترويكا مقارنة بهم لم يكونوا فاشلين وإنما الفشل الواضح يمكن أن ينسب لمن هم اليوم في الحكم خاصة إذا أخذنا المناخ العام الذي حكمت به الترويكا والمناخ المريح نسبيا الذي تم توفيره لمن يحكم اليوم بعين الاعتبار. ونأتي الآن إلى القضية التي خصص لها مصطفى بن جعفر حيزا كبيرا في كلامه في هذا اللقاء وهي هاجس الأزمة التي نعيشها اليوم هل هي أزمة دستورية سببها دستور 2014 الذي أوجد لنا نظاما سياسيا هجينا وزع السلطة والحكم بين جهات متعددة وقسم المسؤوليات مما صعب معه محاسبة المسؤولين وتسبب في النزاع والصراع بين رأسي السلطة التنفيذية ؟ أم أن المشكلة سببها الممارسة السياسية للفاعلين السياسيين و الثقافة القديمة المتكلسة التي بقيت حبيسة تجربة الحكم الفردي والنظام الاستبدادي والتي لا تريد أن تتطور وأن تواكب ما حصل من تغيير في الثقافة السياسية بعد أن قرر الجميع التخلي عن النظام الرئاسي والحكم الفردي ومنظومة الاستبداد ؟ ما ينساه ويغيب عن كل من ينسب اليوم المشاكل التي تعيشها البلاد إلى الدستور الجديد هو أن دستور 2014 كما هو الأمر بالنسبة إلى دستور 1959 يقوم على فلسفة واضحة وبناء متكامل وتصور للحكم يقوم في الدستور الجديد على التخلي عن حكم الرئيس الذي بيده كل السلطات وعن القائد الذي يرسم بمفرده الخيارات الاقتصادية والاجتماعية وهي نظرية تقود حتما إلى الانفراد بالرأي وإلى ترسيخ نظام حكم استبدادي. ما اخترناه في الدستور الجديد هو مخالف لكل ذلك لقد اخترنا بعد نقاش مطول شارك فيه كل الخبراء التونسيين في مادة القانون الدستوري واستشرنا فيه كل المنظمات والهيئات المختصة في العالم وأشركنا في كتابته كل مكونات المجتمع المدني وكل الأحزاب السياسية وكل الشخصيات الوطنية اخترنا دستورا يكرس الحريات على نطاق واسع واخترنا ترسيخ الديمقراطية المباشرة والديمقراطية التشاركية من خلال التدبير الحر للجهات ومن خلال تطبيق الديمقراطية المحلية واخترنا التخلي عن النظام الرئاسي وأستبدلناه بالنظام البرلماني المعدل الذي لا يلعب فيه رئيس الدولة دورا كبيرا ولا يكون مؤثرا في الشأن العام وإنما دوره يقتصر على مجالات محددة لإبعاده عن الصراعات السياسية واخترنا أن يكون رئيس الحكومة هو المسؤول الأول عن السياسة العامة للبلاد وعن تدبير الشأن العام مع إعطاء بعض الصلاحيات لرئيس الدولة كي يراقب عمل الحكومة من خلال حضور مجالس الوزراء واخترنا أن يكون للبرلمان دور كبير في مراقبة عمل الحكومة من خلال آليات رقابية كثيرة بما يعني أننا نحن من اختار بالتوافق وبالإجماع أن نسير إلى أفق جديد من الحكم الديمقراطي وإلى مرحلة مختلفة عن مرحلة بورقيبة وبن علي وأن نخوض تجربة حكم لا مكان فيها للاستبداد أو الانفراد بالرأي والحكم. لقد اخترنا فلسفة واضحة تقوم على توزيع السلطة حتى لا يعود الاستبداد من جديد واخترنا التوزيع العمودي للحكم والذي نجد في كل من رئيس الدولة ورئيس الحكومة والبرلمان بصلاحيات واضحة ومحددة وتوزيع أفقي من خلال الحكم المحلي والديمقراطية عن قرب والتدبير الحر لكون هذا النوع من الحكم هو اليوم السائد في كل الديمقراطيات في العالم ولكون التجارب المقارنة قد كشفت أنه الأنجع والأفضل. المشكلة التي وقفنا عليها تجاه الدعوات التي تطالب بتغيير الدستور والتي تقول بأن فشلنا يعود إلى أحكام الدستور أن هذا النوع من التفكير هو ثقافة المستعمر ولغة المستبد الذي يساوم الشعب بالأمن والاستقرار والنظام في مقابل الحرية والديمقراطية في محاولة للالتفاف على الثورة وعلى الحريات التي تحققت .. هذه الدعوات هي في العمق دعوات للعودة إلى المنظومة القديمة وإلى الحكم الفردي والنظام الرئاسي .. أنا خلال كل هذه السنوات بعد المصادقة على الدستور لم أسمع أحدا من المختصين في القانون الدستوري أو ممثلا من المنظمات العالمية من قال لنا بأن النظام الرئاسي هو الأفضل وأنه علينا أن نعود إليه لم أسمع لا في الداخل ولا في الخارج من مجد النظام الرئاسي وكل ما استمعت إليه هو انتقادات لبعض الفصول من حيث الصياغة أو استعمال العبارات وهذا وارد ومقبول فالدستور في الأخير هو عمل بشري مهما بلغ من الكمال درجة فإن الخلل قد يعتريه ولكن في العموم يبقى دستور 2014 من أفضل الدساتير في العالم فقط ما ينقصه هو الالتزام بتطبيقه والالتزام باحترام فصوله والالتزام باحترام فلسفته القائمة على رؤية تقول إن دور رئيس الدولة لم يعد كما كان من قبل المسؤول الأول عن إدارة الشأن العام. ما ينقصنا هو العقلية والثقافة الجديدتين التي تستجيب للتصور الجديد ولكن مع كل أسف فإن غالبية السياسيين والمثقفين لا يزالون عند الثقافة القديمة التي تربوا عليها في ظل نظرية النظام الرئاسي. المشكلة أنهم لم يقدروا أن يخرجوا من السجن الفكري الذي وضعوا أنفسهم فيه وأن يستوعبوا التغيرات الحاصلة وطبيعة الثقافة الجديدة التي تحكم المرحلة الحالية من المؤسف أن الكثير من رجال القانون والسياسيين ينتقدون الدستور الجديد بعقلية وثقافة النظام الرئاسي ولم يقتنعوا بعد أنه عليهم ان يحينوا فكرهم وثقافتهم . المشكلة اليوم ليست في الدستور وإنما في الأداء السياسي وهذا يعني أن المشكلة سياسية وليست دستورية. إن مشكلتنا في كون رئيس الدولة لا يريد أن يكون رئيسا بصلاحيات محدودة وأن يقتنع بأنه لم يعد رأس النظام الأول وأن يلتزم حدود وظيفته التي منحها له الدستور .. المشكلة أن السياسيين وكل من يتحدثون على الفشل لم يفهموا بعد أننا لم نعد نمارس الحكم وفق المنظومة القديمة وإنما النظام الذي اتفقنا عليه جميعا هو نظام قريب من النظام البرلماني. المشكلة أن سبب الأزمة هو في عدم احترام كل فاعل سياسي الصلاحيات المضبوطة التي قننها الدستور وهذا يعني أنه لو التزم كل واحد دوره ولم يتدخل في صلاحيات غيره لما كنا نتحدث عن أزمة فاليوم لدينا أزمة حكم سببها تدخل رئيس الدولة في صلاحيات رئيس الحكومة وعدم قبول هذا الأخير أن يتدخل فيه ساكن قرطاج . المشكلة أن كل الذين ينعتون الدستور الحالي بالهجين وينسبون إليه كل الفشل في الحكم وفي الممارسة السياسية لازال يسكنهم هاجس الحكم الفردي ولم يخرجوا بعد من صورة حكم بورقيبة وبن علي فالأزمة اليوم هي أزمة سياسية وأزمة سوء توظيف واستعمال الدستور الذي كان واضحا في ضبط الصلاحيات بين السلط وعدم احترام الصلاحيات هو من أوقعنا في كل التعطيل الذي حصل في دواليب الدولة فقد كنا دوما نقول بأنه إلى جانب ضرورة الالتزام بالصلاحيات المقررة في الدستور فإنه علينا استكمال وضع المؤسسات الدستورية والمؤسسات الرقابية وترك حيز من الوقت لتطبيق السلطة المحلية وبعد الانتهاء من كل ذلك عندها يمكن أن نقيم الدستور الحالي أما والمؤسسات الهامة لم تستكمل والديمقراطية المحلية لم تفعل ورئيس الدولة لا يريد أن يلتزم بدوره المحدد فانه لا يمكن أن نحكم على الدستور بالسلب او بالإيجاب . هل يمكن أن نتحدث عن أزمة في العقل التونسي الذي لم يقدر أن يستجيب لمتطلبات المرحلة الجديدة ؟ هل يمكن أن نتحدث عن ثقافة بالية ومتكلسة لا تزال تحكم اليوم الوعي الجمعي ؟ هل يمكن أن نقول أن أزمتنا في أزمة ثقافة النخبة التي بقيت حبيسة الفكر القديم ولم تقدر على أن تخرج من مربع النظام الرئاسي في حين أن الأنظمة السياسية في العالم مختلفة وكذلك الفكر السياسي متعدد ومتطور ؟ وهل أن أزمتنا اليوم هي أزمة خيال وابتكار منعت التونسي من أن يحلق في مناخات فكرية أخرى غير الثقافة التي تقررت في زمن الرئيس بورقيبة وكرسها بن علي وجعلا من الحكم نمطا واحدا لا يمكن الخروج عنه ؟ لكل ذلك أقول إننا نحتاج اليوم إلى إنسان تونسي جديد مختلف عن التونسي النمطي الذي لا يمكن أن يعيش خارج إطار المنظومة القديمة وغير قادر على الانفتاح ي على فضاءات معرفية جديدة وأن يستوعب رياح الثورة التي فتحت عينيه على امكانية عيش أفضل وأحسن فقط عليه أن يطبق الدستور بآلياته وفلسفته وفكرته التي تأسس عليها .. إنا نحتاج إلى تونسي جديد مؤمن بأنه لا يمكن أن نعود إلى الوراء وأن التاريخ يتقدم نحو الأمام وأن الحنين إلى النظام الرئاسي هو عودة إلى الاستبداد وحنين إلى الاستعباد من جديد .. ينهي مصطفى بن جعفر مداخلته بقوله : كنت أتمنى لو قال لنا من ينتقد الدستور اليوم هل أن النظام الرئاسي هو افضل من النظام البرلماني المعدل ؟ وأن يعرفوننا على مواطن القوة في النظام الرئاسي الذي ثار عليه الشعب وطالب بالتخلي عنه بعد رحيل بن علي ؟