في إطار سلسلة لقاءاته التي يجريها مع شخصيات وطنية و ضمن برنامجه استضافة رموز سياسية وحزبية لإجراء حوار معمق معها حول القضايا التي لها بعد استشرافي وفكري يهم مستقبل البلاد في هذه الظرفية التي تعرف فيها مرحلة الانتقال الديمقراطي جملة من المشاكل والاكراهات وتشكيكا في قدرة المسار الثوري على أن يكون مختلفا عن واقع الاستبداد بل شعورا وخيبة أمل لدى طيف كبير من الشعب من فشل الثورة عن تحقيق استحقاتها التي وعدت بها ، نظم مركز الدراسات الاستراتيجية والدبلوماسية ندوة فكرية بنزل " المرادي " بضاحية قمرت استضاف لها الرئيس الأسبق محمد المنصف المرزوقي يوم السبت 13 جويلية الجاري ليقدم وجهة نظره وتصوره لسؤال " تونس إلي أين " ؟ في هذا اللقاء تحدث المرزوقي في الكثير من المواضيع التي يراها تمثل تحديا كبيرا للبلاد في قادم السنين وعن القضايا التي يجب أن يعتنى بها من أجل تونس افضل .. تحدث عن التهديد الذي ينتظر البلاد في السنوات المقبلة بسبب التحول المناخي وعن غياب الوعي عند طيف كبير من الطبقة السياسية بهذه المخاطر التي تتطلب أن تكون في أولويات الحكومات القادمة .. تحدث عن تونس إلي أين سياسيا في ظل عودة الممارسات السياسية القديمة التي تعامل الشعب " كرعايا " وليس كمواطنين والمواطنة في فكر المرزوقي ليست مجموعة حقوق فقط وإنما هي في المقام الأول مشاركة في الشأن السياسي أي التحول من شعب سلبي الى شعب مساهم في الشأن السياسي فصفة المواطنة هي صفة سياسية والتحدي السياسي الذي تراهن عليه البلاد هو في بناء دولة قوية تجمع بين احترام الحريات الفردية وتحقيق تنمية اقتصادية واجتماعية شاملة مع احترام القوانين الضابطة للمجتمع وتطبيقها على الجميع .. التحول السياسي المنشود يشمل مفهوم الدولة وانتقالها من دولة فئة قليلة من الافراد المتحكمة و المهيمنة الى دولة جامعة لكل الناس ودولة يطبق فيها القانون وتحترم مؤسساتها وهذا المبتغى هو الصراع القائم اليوم ملامحه منظومتان تتصارعان واحدة تعمل على تركيز المؤسسات الجديدة للدولة وأخرى تريد العودة الى الوراء وتريد دولة من دون مؤسسات . تحدث المرزوقي عن التحولات التي يشهدها العالم في مجال مفهوم الدولة وتدخلها ودورها خاصة بعد التفكك الذي تعرفه الدولة الحديثة نتيجة نظام العولمة والهيمنة الاقتصادية العالمية التي ألغت الحدود وقلصت من سيادة الدول على ترابها واقتصادها والمواجهة التي يعرفها هذا النظام العالمي العابر للقارات من قبل النزعات القومية التي تعود اليوم و التي تعمل على استعادة صورة الدولة القوية المعروفة بحدودها وإقليمها وسيادتها كل هذه التحولات تجعلنا نقر بوجود تحولات كبرى بصدد التشكل ووجود تنظيم جديد للدولة يعمل على جعل الشعوب تتحرر أكثر وتتوسع في حقوقها تحدث عن التحدي الكبير الذي يتعب الدولة التونسية اليوم قبل كل تحد وهو كيف يقع التصدي إلى منظومة الثورة المضادة ؟ فما حصل خلال السنوات الثماني بعد الثورة هو أن الدولة العميقة قد أفشلت الثورة وفي المقابل فإن منظومة الثورة المضادة هي الأخرى قد فشلت ولم تنجح في استعادة كل القديم .. هي معركة وصراع بين توجه عام عند الشعوب ورغبتها في التخلص من الديكتاتوريات وتوقها للتحرر وبناء واقع أفضل وتوجه آخر يعمل على استعادة الاستبداد من جديد .. هناك في وطننا صراع إرادات ومعركة مع منظومة الثورة المضادة التي يمثلها في مصر الانقلاب العسكري وفي تونس الإعلام الفاسد - على حد تعبيره - الذي لعب دورا في جعل الناس تكره الثورة وفي سوريا الحرب الأهلية التي حولت الثورة السورية من ثورة سلمية على حاكم مستبد إلى تدخلات أجنبية وصراع قوى إقليمية وعالمية وفي هذا الصدد علينا أن ننوه بالحراك الشعبي في كل من الجزائر والسودان الذي فهم أخطاء الثورات واستوعب درس الثورة التونسية وهو أن الثورة والتغيير لا ينجحان إلا إذا تم إزالة كل النظام القديم والتخلص من منظومة الحكم القديمة فما أعاق نجاح الثورة التونسية هو قبولها ببقاء رموز النظام السابق في الحكم وقبول التعامل والتصالح معهم وهو خطأ استراتيجي قاتل فوت على الشعب التونسي فرصة تاريخية لبناء واقع جديد وأفضل واليوم الحراك الجزائري يستوعب الدرس التونسي وقرر أنه لا تعامل مع المنظومة القديمة وأن المرحلة اللانتقالية لا يمكن أن تدار بالرموز المورطة في منظومة حكم بوتفليقة .. لقد تعلموا من اخفاقاتنا شعارهم لا جديد مع القديم وإلا فإن القديم سينقلب على الجميع .. الثورة المضادة في تونس باتت معروفة ومكشوفة للجميع ولم يبق لها إلا السند الخارجي لذلك فإن بقايا المنظومة القديمة نراها اليوم تتحالف مع أعداء الثورة في دول عربية معروفة . يعتبر المرزوقي أنه رغم اخفاقات الثورة في الملف الاقتصادي والاجتماعي فإن جزء من الثورة قد تحقق من خلال تركيز منظومة الحريات التي طالبت بها الطبقة الوسطى غير الذي تخلف عن التحقق هو مطالب الطبقة الفقيرة التي لم تتحقق أحلامها من الثورة بتخلف الاستحقاقات الاجتماعية وتراجع شعارات الثورة الاجتماعية في العمل والتشغيل والتنمية الشامة والعدالة الاجتماعية. يواصل المرزوقي في تحليل فكرته حول طبيعة الوضع الحالي القائم على صراع قوي وعلى معركة بين منظومات وصراع مصالح وإرادات ويعتبر أن الدول الأوروبية قد عادت اليوم إلى سياساتها القديمة وهي المراهنة على الديكتاتوريات وعاد قادتها إلى التفكير القديم الذي يعتبر أنه لا خيار للغرب إلا في دعم الحكم الاستبدادي وحالة مصر خير دليل على الموقف الأوروبي الذي لم يفعل شيئا من أجل الديمقراطية التي يبشروننا بها والديمقراطية التي طالما روجوا أنهم يريدون فرضها بالقوة على العالم الإسلامي وهذا الموقف الغربي الذي يستعيد اليوم وقوفه من جديد إلى جانب الحكومات الجبرية الظالمة لشعوبها والمنقلبة على إرادة الشعوب مبرره ليس المحافظة على المصالح وإنما مبرره خلل هيكلي في الديمقراطية الغربية التي تحتاج اليوم أن نعيد النظر والتفكير فيها بعد أن وقفنا على أن الدول الغربية لا تنتصر للديمقراطية خارج حدودها وهذا يجعلنا نقر بكل وثوق أن الديمقراطية في صيغتها الغربية مستقبلها قد انتهى وعلينا أن لا نعول على الغرب وإنما كل التعويل في ترسيخها في أوطاننا على أنفسنا .. لما كنت رئيسا كان خطابي دوما مع الرؤساء الغربيين الذين التقيت بهم هو دعوتهم أن يخفضوا لنا من الديون وأن يراعوا المرحلة الانتقالية التي نمر بها وأن يدعموا ديمقراطيتنا الناشئة ولكن الديمقراطيات الغربية لم تقبل بذلك إلا بعض الدول وبنسب صغيرة من الديون والحال أنه كان من المفروض أن تقف هذه الديمقراطيات الغربية مع الثورة التونسية وتستجيب لطلباتنا دعما للفكر الديمقراطي الجديد في تونس. ينهي الدكتور المرزوقي هذا الحديث في ندوة " تونس إلى أين " بطرح جملة من الأسئلة في علاقة بالتحديات المستقبلية التي سوف تشكل عوائق نحو البناء الجديد للدولة والمجتمع أول هذه الأسئلة سؤال تونس إلى أين في مكافحة الفساد بطريقة أكثر نجاعة ؟ وثاني هذه الأسئلة ماذا فعلنا في تركيز الحكم المحلي بعد أزمات تجربة الانتخابات البلدية الأخيرة وما خلفته من صراعات انتهت بحل الكثير من المجالس البلدية ؟ تونس إلى أين في تغيير منوال التنمية الحالي الذي لم يعد قادرا على الإفادة أكثر وإحلال خيارات اقتصادية جديدة محله وبدائل تنموية تستجيب للتغيرات الحاصلة من شأنها أن نحقق استحقاقات الثورة ؟ تونس إلى أين في تفكيك منظومة الإرهاب وكشف من يقف وراءه ومن يحرك الزر كلما أراد و ما العملية الأخيرة التي جدت في شارع شارل ديغول بقلب العاصمة إلا خير دليل على أن هناك قاعة عمليات تحرك في الإرهاب لضرب الثورة ولمزيد إفشال المسار الانتقالي. تونس إلى أين في التخلص من منظومة الثورة المضادة بعد أن حصل اليقين من أن الدولة العميقة هي الدولة نفسها بما يعني أن الثورة تجد نفسها اليوم في صراع مع الدولة !! وهذه الحقيقة قد أثبتها شوقي طبيب رئيس هيئة مكافحة الفساد حينما قال بأن الذي عطل التقدم في ملف محاربة الفساد هي الدولة العميقة ومؤسسات الدولة التي رفض مسؤليها التعامل معه لذلك فإن القضايا المصيرية تحتاج لمعالجتها إلى الزمن الطويل ومن أجلها نحتاج أن نفكر بعقلية الزمن الطويل وأن ننظر إلى الأفق البعيد ..