غادرنا نهائيا الاستاذ الباجي قائد السبسي في غفلة منا وترك في نفوسنا الما وحسرة ملتحقا بربه الذي اوجب علينا جميعا الفناء في هذه الدنيا مهما بلغت أعمارنا التي نقضيها في العمل والاجتهاد لنجازي عليها في الآخرة من رب كريم رؤوف رحيم عن السهو والغفلة والتقصير الملازمة لنا اجمعين. عرفته منذ ان بدأت اعرف التدبير يوم دعني لمقابلته ذات يوم من صيف سنة 1960 لما كان مديرا لإدارة الشؤون الجهوية بوزارة الداخلية، دخلت عليه في الموعد المحدد في حالة ريبة وخوف وتفكير، ولم تكن لي بالسلطة علافة أو تقدير فعرض الدخول في سلك المعتمدين، قبلت العرض والتحقت بالعمل بولاية القصرين، لانتقل منها لولايات لمعتمديات لأقضي عشرة سنين قبل ان يتم تكليفي بخطة وال لثمان سنين قبل ان اعين مديرا للإدارة الجهوية التي كان هو فيها مدير. تقلب المرحوم في المهام الوزارية مبتدئا بالداخلية التي تولاها بعد وفاة الطيب المهيري سنة 1965 كان من بين المطالبين بإدخال جرعة من الديمقراطية في الحياة السياسية واستقال من سفارتنا بباريس وشارك في مؤتمر الحزب المنستير الاول في 1971 وكان ضمن المجموعة التي تم رفتها في مؤتمر المنستير الثاني المنعقد سنة 1974 وبقي مستقلا لعدد من السنين يكتب في الصحافة المستقلة الى حين، لكنه لم يقطع مع بورقيبة الجسور ليعود مرة ثانية للحكم سنة 1980 وزيرا للخارجية ويبرز خاصة في الدفاع عن تونس بالمنتظم الأممي ضد إسرائيل التي تعمدت الاعتداء في أراضيها على الفلسطينيين. انخرط في التغيير الذي قام به زين العابدين بن على، وترأس مجلس النواب الى حين ليعود الى المحاماة من جديد، فكانت فرصة لي لأجدد اللقاء به في اروقة المحاكم كزميل وفِي جلسات خاصة كنا نتقابل فيها من حين الى حين. وكنا نخوض في السياسة والماضي القريب وما كانت عليه تونس في تلك الايام، وكانت أفكارنا قريبة، ونسينا الحكم ومشاكله وبتنا نفكر في الثقافة والتقطيع والترييش وبحضور المناسبات الاجتماعية، وعندها فاجأنا بإصدار مذكراته في كتاب تحت عنوان (الاهم والمهم) قبل سنة من الثورة، لاقي أصداء ايجابية وما زال مفيد. لم يتركوه لحاله بعد الثورة وشغور الحكم وتمت دعوته لتحمل اعباء الوزارة الاولى في فترة مفصلية صعبة، قام فيها بتنظيم انتخابات حرة نزيه ومستقلة شهد بها له الجميع. وسلم إثرها عهدة الحكم لمن فاز بالأغلبية ليستريح، ولكن الاحوال دفعت به للعودة من جديد واسس حركة نداء تونس وترشح لرئاسة الجمهورية بنية التوازن، وتحالف مع خصوم الامس (حركة النهضة) بعد مد وجزر، وتحمل المسؤولية والسير ضد التيار، واظنه كان مصيبا في اختياراته التي ظهرت اخيرا في انتقال السلطة في هذه الظروف. لقد افتقدته تونس في يوم عيد الجمهورية وكانت تستعد لأحياء ذكراه، ولكنها بحسرة بكت عليه وشعرت بفراغ كبير، اذ كان من بقايا العهد الجميل، جيل الاستقلال وبناء الدولة، وممن عملوا مع بورقيبة واخذ منه الكثير، وهو ما بوأه مكانة رفيعة في النفوس بالداخل والخارج وهب العديد من قادة العالم للتنويه به وبالحضور. وانني بهذه المناسبة الحزينة أترحم عليه وأعزي فيه عائلته والشعب التونسي، متمنا ان يتقبله الله احسن القبول ويجازيه على كل ما قدمه لتونس، وانا لله وانا اليه راجعون.