قبل وبعد 14 جانفي 2011 فرض الباجي قائد السبسي أجندته على الجميع، أدار السلطة في أخص خصائصها عبر وزارة الداخلية والخارجية ووزارة الدفاع ورئاسة مجلس النواب، جرب الحكم وجرب المعارضة، قبل وبعد 14 جانفي، وقلب الأمور رأسا على عقب ، في عامي 2012 و 2013، ونجح في دفع النهضة على طريق لم تكن لتحبه أو تعتقد أنها ستضطر له بعد " انتصارها" ولو النسبي في انتخابات 2011 ونجح في ضمان وصول "قمة" السلطة بدهائه، الذي لم ينفع معه دهاء الغنوشي. ميتا فرض أجندته برغبته أو بالصدفة، وإذ لم ينجح في 2014 مع الغنوشي في فرض إجراء الانتحابات الرئاسية قبل التشريعية ، وهي النقطة الوحيدة التي رفض الغنوشي التنازل عنها آنذاك . ميتا فرض إجراء الرئاسية قبل التشريعية ، وهو ما وضع النهضة في موقع سيء، فسبق الرئاسية كما هو معروف عالميا له تأثيراته على التشريعية اللاحقة ، l'effet d'entraînement وهو أمر غالبا ما تعمل القوانين الانتخابية على تضمينه بين فصولها وربما في دساتيرها ، وحتى في حالة ما جاءت انتخابات رئاسية خلال عهدة تشريعية قائمة ، فإن لرئيس الجمهورية المنتخب حل البرلمان ودعوة الناخبين لانتخاب برلمان جديد ، معتمدا قوة الدفع التي يعطيها التصويت للرئيس الجديد لضمان سلطة تشريعية موالية ، وهو ما لجأ إليه كل من الرئيس ميتران والرئيس شيراك في فرنسا. إذن فإن ما لم يستطعه الباجي قائد السبسي حيا، تحقق بعد وفاته ، فارضا على النهضة ما لا تريده، ولا تتمناه، ووضعها في موضع الاحراج بإجراء انتخابات رئاسية سابقة لأوانها، بحيث تؤثر نتيجة الانتخابات الرئاسية على الانتخابات التشريعية اللاحقة. وإذ كان الغنوشي يبحث عن "عصفور نادر" يتمنى أن يكون رئيسا ملائما للبلاد وبالتالي للنهضة ومطيعا لها، على غرار يوسف الشاهد مثلا، ولا يكون منها، غير أن سبق الانتخابات الرئاسية عن الانتخابات التشريعية لا يجعل أي كان يغامر بالتبعية للنهضة، أو التحالف المسبق معها، لا منصف المرزوقي ولا مصطفى بن جعفر ولا قيس سعيد ولا حتى حمادي الجبالي، إن كان ما زال لهم أنصار وناخبون في مخزون كل منهم، وفقا لما دلت عليه آخر استطلاعات الرأي. إذن فإن وفاة الباجي قائد السبسي في 25 جويلية الماضي، أدى إلى إجراء انتخابات رئاسية سابقة لأوانها ، وسابقة للإنتخابات التشريعية ، ما خلط أوراق اللعبة والنهضة ، وأعادها إلى واقع لم تتوقعه ولا تمنته، وجعل العصفور النادر من خارج صفوفها غير متاح ولا متوفر ، فالنهضة باتت بالنسبة للأحزاب التي تعتبر نفسها "حداثية" والتي لها حظوظ انتخابية ، بمثابة المرض المعدي الذي يجب عليها أن تتجنبه. سارع مهدي جمعة وهو من أول المترشحين رسميا للرئاسيات ، للتبرؤ من النهضة ، برغم ما يقال إن صح أو لم يصح أنه كان في صفوف منظمتها الطلابية، برئاسة عبد الكريم الهاروني رئيس مجلس الشورى حاليا ، قائلا ما معناه أنه "على غير اتصال بالنهضة " فيما حاول آخرون أن يبرزوا أنهم ليسوا حلفاء النهضة ، محاولين الابتعاد عنها. ورغم محاولات مجلس الشورى على فترة أيام عدة أن يبحث عن العصفور النادر من خارج صفوف النهضة ، ورغم حرص رئيسها راشد الغنوشي ، والمكتب التنفيذي إلى آخر لحظة ، إيجاد هذا العصفور النادر من خارج جسم النهضة ، إلا أن أغلبية بسيطة اضطرت زعيم الحركة إلى الخضوع للواقع ، فتم الاقتصار على عصفور وغير نادر من الصفوف : هو عبد الفتاح مورو. ولا يبدو وفق ما تسرب أنه لم يكن هناك تدافع للترشح للمنصب الرئاسي في هذه الظروف داخل صفوف النهضة ، وبالنظر لواقع الحال فإنه لا يبدو أن هناك من يقبل على الانتحار، والشيخ عبد الفتاح مورو الذي يحلو له أن يتمنطق بهذه الصفة لعله من القلائل الذين يزنون في النهضة ، الذي يقبل بهذه المغامرة غير مأمونة العواقب. ولعل رئيس الحركة كان يسعى بكل جهده لتجنب توريط الحركة ذاتها في السباق الرئاسي ، ذلك أن نتيجة سيئة تبقى محتملة ، ستكون لها تبعات على الانتخابات التشريعية ، ويخشى رئيس النهضة بثاقب نظره ودهائه ، أن يؤدي احتمال عدم نجاح المرشح النهضاوي في تخطي الدورة الأولى ، إلى تراجع كبير في احتمالات تسجيل نسبة معقولة في الانتخابات التشريعية ، بما يمكن معه أن تنزل بعدد نواب الحركة إلى ما اعتبر الحد الأدنى من النواب في انتخابات 2014 ، أي ما بين 60 و70 نائبا ، وهو ما قد لا يوفر العدد الكافي من النواب اللازمين لانتخاب رئيس الحركة في "البرشوار" أي رئاسة مجلس النواب ، وإذ يمكن أن تكون النهضة هي أول حزب من حيث أعضاء البرلمان ، إذا لم ينافسها على تلك المرتبة حزب قلب تونس لنبيل القروي ، فإنها لن تدعى لتشكيل الحكومة أيضا ، فتجد نفسها خارج احتمالات نيل أي واحد من المقاعد السيادية الثلاثة الأهم ، رئاسة الجمهورية ورئاسة الحكومة ورئاسة مجلس النواب ، اللهم إلا إذا قامت صفقات خارج الحسبان. وهذا ما تخشاه النهضة ، والذي جاء نتيجة خلط الأوراق الذي أنتجته الوفاة المفاجئة لقائد السبسي ، والتي لم يقرأ لها أي كان حسابا. [email protected]