شيعت فرنسا رئيسها الأسبق جاك شيراك بموكب رسمي وطني في ثكنة (الأنفاليد) مع يوم حداد و بتجمع شعبي في كنيسة (سان سلبيس) الغريب في سيرة هذا الرجل أنه في فترة حكمه لم يحض بهذا الإجماع الكامل على نقاء سمعته و درجة التحامه بالناس العاديين فهو بعد وفاته أٌرقب للمجتمع و ألصق بالتقاليد الفرنسية العريقة و من أبرز مواقفه التي تستعيدها قنوات التلفزيونية الفرنسية اليوم و تقدمها كدليل على استقلال القرار الفرنسي ذلك الاستقلال الذي شكل لدى الجنرال شارل ديغول (بطل شيراك و راعيه الأول) حجر الزاوية للسياسة الخارجية لباريس وهي مواقف عديدة متعاقبة جعلت واشنطن لا تعول كثيرا على الحليف الفرنسي بل تذكره دائما بأن أمريكا هي التي حررت فرنسا من الاحتلال الألماني النازي بنزول القوات المسلحة الأمريكية بقيادة الجنرال (إيزنهاور) على السواحل الفرنسية يوم 6 يونيه حزيران عام 1944 اليوم يظهر الراحل جاك شيراك في صورة البطل المتمسك بالإرث الديغولي و مخلص وطنه من التبعية و التذيل و لم تنس موقفه غي فبراير 2003 حين رفض قطعيا الإنخراط في الحرب الأطلسية العربية على العراق بدعوى أن لدى صدام حسين أسلحة دمار شامل! استعادت القنوات و الصحف هذه الأيام الخطاب الذي ألقاه في مجلس الأمن (كولن بأول) وزير خارجية بوش الإبن وهو يستشهد بخرائط و صور من إنتاج الأقمار الصناعية تشير الى مواقع تخزين و تصنيع الأسلحة الكيميائية الفتاكة و ربما النووية السرية و تبين بعد الحرب أن صدام حسين لا يملك منها شيئا لكنه هو الذي ورط العراق في تلك الحرب عندما الاتكب أكبر خطيئة سياسية باحتلال الكويت الدولة المستقلة العضو في الأممالمتحدة و التلويح بقوة لا يملكها و لم يكن يخضع للضغوط العالمية التي تدعوه للخروج من الكويت حتى خلت الكارثة و يعيد الإعلام الفرنسي بث الخطاب التاريخي الذي ألقاه باسم فرنسا السيد (دومينيك دوفيلبان) الوزير الأول و رد فيه بالحجة على الصقور الأمريكان بأن فرنسا نعم هس دولة عجوز في قارة عجوز و لأنها جربت الحروب و عرفت الإتلال فإنها ترفض تدمير العراق لأن هذا العمل سيولد المزيد من بؤر الإرهاب و العنف و سيخل بالتوازن القديم الهش الذي استقرت عليه دول الشرق الأوسط و أن باريس ستعارض الحرب في مجلس الأمن برفع الفيتو أما قرارها و تذكر القنوات بأن هذا الموقف المستقل المشرف قابله المجتمع الأمريكي بإعلان حصار تجاري على منتجات فرنسا فوقعت حوادث تهشيم للسيارات الفرنسية و ألقي بالجبن الفرنسي الشهير في المزابل و غيروا اسم (الفرنش فرايز) الى (فريدم فرايز) و مرت العلاقات بين باريس و واشنطن بمرحلة طويلة من البرود و التوتر ثم أثبتت الأحداث أن داك شيراك كان على حق بعد أن حل الحاكم الأمريكي المدني للعراق (بريمر) الجيش العراقي و سرح ضباطه و حل حزب البعث و سجن قياداته ثم كان ما كان مما يعرفه الجيل العربي الراهن من تعاقب الكوارث العربية بانهيار كل أواصر الوحدة و وشائج الأخوة فقامت هنا و هناك حروب أهلية و صراعات قبلية و سادت الفوضى التي أعلنتها (كندوليزا رايس) خلاقة فلم تخلق سوى مئات ألاف الضحايا و دمار العراق ثم سوريا ثم اليمن ثم ليبيا و بلوغ العنف و الانقلابات الى مصر و تزعزع استقرار تونس و انهارت مؤسسات الدولة الى أن أفاق مجتمعها المدني فحاول إنقاذ ما يمكن إنقاذه. ثم إن شيراك يعتبره العرب و الفلسطينيون صديقا لقضاياهم بعد أن واصل السياسة الديغولية الأكثر اعتدالا في الغرب نحو المظلمة الفلسطينية و يذكر العرب كيف غضب شيراك من جنود الإحتلال الإسرائيلي وهدد بمغادرة القدس حين ضايقه حرسه الإسرائيلي و منعه من مصافحة المواطنين الفلسطينيين في زيارته الشهيرة الصاخبة للأراضي المحتلة. و لا أنسى شخصيا وقوف شيراك معنا أنا و محمد مزالي رئيس حكومة تونس حين كنا منفيين زمن الاستبداد و كان هو عمدة باريس أواسط الثمانينات فساعدنا و وقف معنا و استقبل مزالي و أكرمه في حركة شجاعة تحسب للرجل فالتحية و التقدير الى روح جريئة.