السياسة صنعت شهرته ... وتداعيات السياسة اعادته هذه الأيام الى الواجهة، اذ قلما يغادر رجل السياسة منصبه الرئاسي أو الحكومي دون أن يخلّف ملفا مثقلا باحداث وسلوكات قد لا تظهر خلال ممارسته مهامه السياسية، أما الرئيس الفرنسي السابق جاك شيراك فقد أحدث سابقة في هذا الباب حين أحيل الى القضاء بتهمة اختلاس أموال عامة في قضية وظائف وهمية تعود الى مطلع تسعينات القرن الماضي حين كان عمدة العاصمة الفرنسية باريس. شيراك بات أول رئيس فرنسي سابق يمثل أمام القضاء بتهمة الفساد المالي، وهو الذي عمل عمدة لباريس لمدة طويلة (18 عاما) لا يضاهي طولها سوى لائحة الفضائح والاتهامات التي لاحقته خلالها سواء من حيث استخدامه المال العام او الألقاب العديدة التي التصقت به مثل «بونابرت الحرباء» لكن طريقة الرئيس الفرنسي المنصرف في نطق الكلمات وتلفظه بها بتأن وكأنه يلقي شعرا فضلا عن مواقفه المؤيدة للقضايا العربية وسياسته الديغولية تعتبر ابرز ما سيبقى في الذاكرة من هذه الشخصية اللافتة التي شغلت المسرح السياسي الفرنسي لولايتين رئاسيتين، بل لعقود من الزمن في صلب الحكومة الفرنسية. فالرجل الذي اصدر قبل يومين الجزء الأول من مذكراته يفخر بثباته على موقفه من غزو العراق حيث وقف منذ الوهلة الأولى ضد هذه الحرب الظالمة وقاد الحلف المعارض لها وبقي على هذا الموقف حتى خروجه من قصر الايليزيه عام 2007، وهو الرئيس الذي يكاد يكون الوحيد من بين رؤساء الغرب الذي «يحظى» بكره الاسرائيلييين له بسبب ما يعتبرونه ميلا الى عدالة القضية الفلسطينية وهو الرئيس الذي اشتبك مع احد حراس الحدود الاسرائيليين حين زار القدسالمحتلة عام 1996 واحتج على التضييقات التي يفرضها الاحتلال على حياة الفلسطينيين وهو ما لم ينسه الاسرائيليون ووثقوه في سجله وزاد في رصيد الكراهية التي يكنونها له. لكن هناك جانبا في شخصية شيراك يجعل الناس لا يملكون الا ان يحبّوه، هو ربما هدوء شخصيته الذي يعكس نطقه للكلمات وتأنقه في اللباس، فعلى العكس من خليفته نيكولا ساركوزي يبدو شيراك دائما في أناقة باريسية لا يُعلى عليها تساعده في ذلك قامته المهيبة. وعلى غرار الرئيس الفرنسي الراحل فرنسوا ميتران الذي ارتبط اسمه بمشاريع ثقافية كبيرة في فرنسا منها متحف اللوفر وأوبرا الباستيل أراد شيراك أن يرتبط اسمه بتحفة فنية تزين باريس وترتبط بتاريخ رئاسته، فكان متحف الفنون القبلية الذي افتتحه عام 2006 لكنه لسوء حظه لم ينج من انتقادات ناشطي حقوق الانسان والمؤرخين الذي اعتبروا ان المتحف يكرس وجهة النظر الامبريالية لتاريخ افريقيا، ولئن لم ينجح شيراك في تخليد اسمه في التاريخ الفرنسي عبر هذا المتحف فانه حتما سيبقى في الذاكرة كسياسي كلاسيكي هادئ وأنيق، يستحضر للذهن صورة «الجنتلمان» رغم سنواته السبع والسبعين. وشيراك الذي رحل عن قصر الإيليزيه بعد ان امضى فيه 12 عاما، خلف اضافة الى الارث السياسي ديكورا مميزا اشرفت عليه السيدة الأولى برناديت دوكورسيل بنفسها، حيث أجرت تغييرات على القصر الذي يعود الى القرن 18 بغرفة ال 365 ... كيف لا وهي ابنة الطبقة الارستقراطية التي تزوجها شيراك عام 1956 رغم تحفظ العائلة التي لم تر فيه عريسا مثاليا لابنتها. ولم تمض أكثر من أربع سنوات على زواجه حتى تمكن شيراك خريج مدرسة الادارة الوطنية التي غالبا ما تنجب نخبة السياسيين الفرنسيين - من أن يصبح مساعدا لرئيس الوزراء الديغولي جورج بومبيدو عام 1960 قبل أن يصبح وزيرا مبتدئا في حكومته، وتوالت نجاحاته ليصبح رئيسا للوزراء للمرة الأولى عام 1974 وهو مركز شغله لعامين قبل ان يستقيل. وبين مثوله أمام القضاء وصدور مذكراته ستحمل الأيام المقبلة تفاصيل أوفى عن أيام شيراك قبل الرئاسة وبعدها وستشتغل الساحة السياسية الفرنسية مرة اخرى بالرئيس الأنيق.