باحتفالات يوم أمس يكون الزعيم الحبيب بورقيبة قد استعاد مكانه ومكانته وموقعه في ذاكرة التونسيين وهو حق شرعي حرمه منه العهد السابق.. وهذا خطأ من الأخطاء الفجّة الكثيرة التي وقع فيها ذلك العهد وهي لا تدلّ على نباهة.. ولا على حكمة.. ولا على واقعية.. بقدر ما تدلّ على تقصير وقصور.. وأعتقد أنه خسر بإصراره على ممارسة ذلك الخطأ أكثر مما غنم.. وأضرّ بسمعته وشعبيته أكثر مما انتفع.. وبورڤيبة اليوم يحمل على حق يجب أن يلقاه كل الذين ضحّوا من أجل تونس.. وخدموها بشرف وإخلاص.. وأعطوها أكثر مما أخذوا منها.. وبورڤيبة زعيم كبير ما في ذلك شكّ.. حقق لتونس الكثير.. وقادها قيادة حكيمة ورشيدة.. وارتقى بها.. ووضعها على طريق العلم والتعليم والثقافة.. ولكنه رغم كل أعماله الكبيرة والهامة لم يكن وحده فلقد كانت معه كوكبة من الرجال الأفذاذ.. والشرفاء.. وبل والعظماء.. والعباقرة الذين قدّموا إلى تونس خدمات جليلة وعظيمة ساهمت في إخراج تونس من الظلام إلى النور.. ومن التخلف الى التقدم.. وهذه الكوكبة من الرجال ساهمت مع بورقيبة في بناء الدولة وفي رسم طريق المستقبل بعد تحقيق الاستقلال وساهمت معه كذلك في الكفاح التحريري وفي الثورة ضدّ المستعمر وجاهدت وناضلت وصبرت وصابرت.. وتحمّلت مثلنا تحمّل هو السجون والمنافي.. إن بورقيبة لم يكن أمّة برأسها.. ولم يكن الوحيد في عملية تحقيق الاستقلال وتأسيس الدولة.. ولكنه للأسف الشديد استطاع أن يوظف الدولة بإعلامها وأجهزتها القمعية لترسيخ فكرة مركزية مفادها أنه «مخلّص البلاد» الأوحد وسيّد الأسياد والزعيم الذي لا مثيل له.. لقد استطاع بما كان لديه من سلطة أن يقنع الشعب بأنه هو أو لا أحد وتحوّل شيئا فشيئا الى الشجرة الضخمة التي تغطي الغابة.. والآن وقد أعدنا له ما يستحق من حفاوة وتخليد وذكر طيّب علينا أن لا نقع في خطأ التأليه وعبادة الفرد وتحويله الى صنم.. ويجب أن لا نسمع بعودة بورڤيبة آخر يهيمن على الشعب والدولة والوطن وكل شيء بدعوى أنه «مخلّص البلاد».. وأنه الذي يفهم أكثر من الشعب.. وأنه «عامل مزية» على الشعب.. نعم.. من مصلحتنا أن نستفيد من طريقة التفكير البورڤيبي ولكن ليس من مصلحتنا أن نسمح لبورڤيبة آخر بأن يحكمنا بالعقلية البورڤيبية في الانفراد بالحكم.. بورڤيبة إنسان اجتهد وأصاب وأخطأ.. وما قدمه لتونس يستحق منا التقدير والاحترام.. ولكنه لن ينسينا في أخطائه.. وممارساته التي كانت فوق الدولة.. وفوق القانون.. وفوق الشعب.. ألم يقل ذات مرّة: «أنا تونس وتونس أنا»؟! بورقيبة مات وعليه رحمة الله.. ولكن تونس لم تمت وهي التي يجب أن تكون فوقنا جميعا وليس من حق أي أحد منا أن يحتكرها.. أو يصبح وصيّا عليها.. أو يدّعي التفوّق في محبتها..