في الحقيقة أنا لم أقرأ من قبل للأستاذ صالح الحاجة لا كتبا ولا روايات وما كنت أعلم أن له كتبا أو أنه يتقن فن الرواية وإنما كانت معرفتي به من خلال ما يكتبه في الصحافة التونسية وخاصة بطاقته الشهيرة في جريدة الصريح الورقية قبل أن تتحول إلى إلكترونية وكم كانت مفاجأتي سارة حينما قرأت روايته الأخيرة " حرقة إلى الطليان " الصادرة عن ديار النشر والتوزيع 2019 في 381 صفحة من الحجم المتوسط لأكتشف صالح الحاجة الروائي الذي يتقن كتابة الرواية الحديثة ويبرع في شد القاري إلى الأحداث التي يرويها ويقصها بأسلوب سهل وبحبكة جميلة وبصور معبرة من صميم الواقع التونسي ما يجعل القارئ ينجذب إلى فصولها ولا يكاد يبدأ في قراءة الكتاب حتى يجد نفسه مجبرا على إكمال الرواية في قراءة مسترسلة دون انقطاع . هذا عن رأيي في أسلوب الرواية وطريقة السرد والحبكة القصصية و هي كلها أمور تجعلنا نقف أمام مبدع من جيل الروائيين المحدثين الذين ادخلوا بعض التجديد على الرواية التونسية الحديثة أما عن المحتوى ومضمون رواية " حرقة إلى الطليان " فإن الذي شدني إليها ولفت ناظري مسألتان مهمتان الأولى قصة الهجرة السرية التي تعاني منها البلاد والتي اضطرت أعدادا كبيرة من شبابنا إلى مغادرة البلاد سرا بحثا عن الجنة الموعودة والمسألة الثانية هي قضية الصراع اليوسفي البورقيبي وما خلفه من انقسام في صفوف الشعب التونسي الذي حلم أن يكون له واقعا أفضل بعد نهاية الاستعمار الفرنسي. المسألة الأولى التي تناولها صالح الحاجة في روايته هي ظاهرة الحرقان إلى بلدان أوروبا وهي مسألة في غاية من الأهمية إذ على خلاف ما هو معروف فإن ظاهرة الحرقان ليست بالظاهرة الحديثة ولا تعود كما يقال إلى سنوات التسعين من القرن الماضي حينما عرفت البلاد أزمة كبيرة بعد اتفاق الشراكة الذي أبرمته الحكومة التونسية في زمن الرئيس بن علي مع الجانب الأوروبي والذي حرر التجارة وسهل دخول البضائع الأوروبية و تسبب في غلق الكثير من المعامل والمصانع ودخول الآلاف من العمال في بطالة دائمة وما رافق ذلك من انسداد أفق العمل وتقلص فرض التشغيل مما اضطر الكثير من الشباب العاطل عن العمل إلى التفكير في الهجرة إلى بلدان ما وراء البحار بحثا عن واقع أفضل بعد أن ضاق الأمل في المستقبل وهي الظاهرة التي عرفت بالحرقان لكون المتسللين إلى السواحل الايطالية كان تسللهم غير شرعي وعن طريق ما يعرف بقوارب الموت التي تحمل على متنها المئات من الحارقين في رحلة مجهولة المصير وقد تكون من دون رجعة. إن المهم في الرواية هو كونها قد أرخت بصفة فعلية لظاهرة الحرقان التي عرفتها البلاد منذ السنوات الأولى للاستقلال حيث فتحت الحدود إلى أوروبا بصورة شرعية وقانونية غير أن الفارق الذي أبرزه صالح الحاجة هو أن الحرقة في في بداية الاستقلال كانت من أجل تحسين حال الأسرة الفقيرة التي تعيش هشاشة كبيرة وخصاصة أكبر وبعد أن تعطل المصعد الاجتماعي الذي كان المدخل الوحيد لتحسين الوضع العائلي فبطل الرواية هو شاب منحدر من أسرة فقيرة تعيش على القليل من الطعام وفاقدة لأي سند خارجي وقد تعطل به المصعد الاجتماعي الأول وهو التعليم بعد فشل في الدراسة وانقطاع عنها كما أن المصعد الثاني وهو العمل قد تعطل هو الآخر حيث تعذر عليه الحصول على شغل في غياب استكمال التعليم وبالتالي وجد نفسه في وضعية العجز الاجتماعي وصعوبة في تحسين حال الأسرة حيث كان المبرر للهجرة أو كما كانت تسمى " بالهجة " ليس من أجل تحسين الوضع الشخصي وإنما بهدف تحسين حال العائلة بأكملها أما اليوم فان ظاهرة الحرقان هي في أيامنا هذه من أجل تحسين الوضع الخاص للشباب الحارق والفرق الآخر بين " حرقة اليوم و هجة الأمس " هو أن الهجة كانت شرعية ومن خلال اجتياز الحدود والوصول إلى إيطاليا بجواز سفر عادي إلا أن الحرقة الحقيقية تبدأ من هناك حيث أن الكثير من الشباب التونسي ما إن يصل إلى إحدى مدن ايطاليا إلا ويبدأ في التفكير في عملية حرقان إلى دولة أوروبية أخرى بحثا عن وضع أفضل اذا ما عجز عن وجود شغل في بلد الطليان أما الحرقة اليوم فإنها تبدأ سرية وغير شرعية من تونس في ظل غياب التأشيرة التي تسمح بالمغادرة القانونية لاعتبارات تعود إلى وضعية الشاب المهاجر ولقوانين الهجرة التي وضعتها أوروبا للحد من تدفق المهاجرين إلى أراضيها. المسألة الثانية التي تعرضت إليها الرواية هي مسألة الاستقلال وتحرر البلاد من قيد الاستعمار الفرنسي وكل الحلم الجميل الذي رافق التونسيين في بناء دولة مستقلة بعد رحيل الفرنسيين عن أراضينا والتخلص من الفقر والجهل .. دولة تحقق الكرامة والعيش الكريم والرفاهية .. ودولة توفر لأفرادها كل ما كانوا يفتقدونه في زمن الاستعمار غير أن هذا الأمل الكبير قد انقلب إلى خيبة وانكسار بعد إن انقسمت البلاد إلى شطرين وانشطر الشعب إلى شطرين واحد مع الحبيب بورقيبة ويدافع عن خيراته والثاني منحاز إلى صالح بن يوسف ويؤمن بأنه على صواب في كل ما يقوله ويردده وبدأ التخوين والخلاف واتسعت دائرة الوشاية وعمت البلاد في بداية الاستقلال حالة من الخوف والهلع من الاصداع بالرأي فكان الواحد يخاف من صديقه أو رفيقه أو فرد من عائلته بسبب رأيه في بورقيبة أو بن يوسف وبدأت عمليات الاختطاف والانتقام من كل من يقول في الزعيم بورقيبة كلاما يسيء إليه وبدأ التنكيل وتعذيب أنصار بن يوسف وعرفت البلاد أياما عصيبة وسنوات سوداء ذهب ضحيتها الكثير من أبناء الشعب المنحازين إلى الشق اليوسفي إلى درجة أن أصبح سؤال الاستقلال سؤالا مطروحا وأمرا محيرا . وقد كان عم مرزوق وهو أحد الشخوص الذين نالهم نصيب من التهم والتعذيب بسبب عدم رضاه عما يجري في البلاد من انقسام وخوف ورهبة يسأل متى ينتهي الاستقلال ؟ وهو سؤال سبب له الاتهام بالجنون و تم ادخاله إلى مستشفى الرازي بمنوبة بسبب أنه كان يردد أمام الناس " الاستعمار خير من بورقيبة ". متى ينتهي الاستقلال هو سؤال وجودي يعبر عن حالة القلق التي خيمت على مشاعر الكثير من أبناء الشعب التونسي من الذين لم يرضهم ما كان يحصل في دولة الاستقلال التي نكلت بأبنائها لمجرد اختلافهم معها وبسبب انحياز بعضهم إلى الزعيم صالح بن يوسف. وهو سؤال على غرابته فإنه يختزل طرافة وأهمية وأهميته تكمن في كونه يعكس الوضع الذي انتجه حدث الاستقلال في كونه قد وضع أمام المساءلة الشعبية كل الجهد الذي بذلته الحركة الوطنية و كل ما تحقق بفعل الكفاح الوطني ضد الاستعمار الفرنسي من أجل الحصول على الاستقلال حيث كان من المفترض أن يتوج هذا الجهد بعد خروج المستعمر الفرنسي ببناء دولة وطنية تجمع كل التونسيين وتحقق لأفرادها العيش الكريم والكرامة المفقودة والأمن والسلام والعيش المشترك بعد أن عاشوا سنوات طويلة من الاحتلال و الظلم والقهر والفقر غير أن الذي حصل لم يكن في مستوى الطموحات وكان حدث الاستقلال نقمة على الجميع – في نظر عم مرزوق - وأنتج عكس ما تصوره الشعب فما إن خرج الفرنسيون من تراب الوطن حتى انقسم الشعب على نفسه شطرين الأول مع الرئيس بورقيبة والثاني مع صالح بن يوسف وعمت الفتنة البلاد وبدأت التصفية الجسدية تفعل فعلها في الناس وبدأ الخوف ينتشر والملاحقات والوشاية تتوسع رقعتها وحصل شعور بأن الذي كان يجمع التونسيين ويوحدهم هو الاستعمار وأن الذي يفرقهم اليوم هو هذا الاستقلال الذي بذل من أجله الكثير من التونسيين أرواحهم . لقد اتضح اليوم أن الذي أصبح عبئا ثقيلا على البلاد في نظر الكثير من التونسيين - ومنهم العم مرزوق - هو ما حصل من استقلال وأن الشعب كان في ظل الاستعمار موحدا وتجمعه غاية مثلى وهو محاربة الاحتلال الفرنسي وأن الشعب رغم فقره وتخلفه وحالته السيئة وفقدان كرامته إلا أنه كان يشعر بالنخوة والعزة واللحمة في ظل الاستعمار وأن الاستقلال قد تسبب في حصول اقتتال كبير وإراقة دماء وجراح وألام لن تندمل بسرعة بالنسبة للكثير من العائلات التي تضررت من هذا الصراع المدمر من أجل ذلك فإن العم مرزوق في رواية حرقة إلى الطليان يسأل متى ينتهي الاستقلال حتى يعود الوئام بين الجميع وينتهي هذا الشعور بالانتقام و هذا الشعور بالظلم من طرف الدولة التي تمناها كل تونسي ؟ متى ينتهي الاستقلال حتى تنتهي هذه الخصومة بين الأخوة الاعداء وتطوى صفحة من تاريخنا المعاصر كانت مؤلمة ؟ ومتى ينتهي سؤال الاستقلال حتى نحقق التصالح بين اليوسفيين والبورقيبيين ونعود كما كنا شعبا واحدا لا يتوارث أجياله هذا الجرح الذي يسمى الصراع اليوسفي البورقيبي ؟ كان سؤال متى ينتهي الاستقلال سؤالا غريبا غير أنه يختزل الرغبة التي نجدها اليوم عند التونسيين لإنهاء حالة الانقسام التي خلفها الموقف من الزعيمين الحبيب بورقيبة وصالح بن يوسف. كان هذا جانبا من الأفكار والقضايا التي نجدها في رواية " رحلة إلى الطليان " وهي رواية طريفة ويمكن تصنيفها في خانة الرواية الاجتماعية والتاريخية وحتى الفكرية لأنها تطرح الكثير من الافكار التي تحتاج أن نتوقف عندها ..