وضع اقتصادنا اليوم بعد تسع سنوات من الثورة ليس على أحسن حال وهو وضع يمر بعدة صعوبات تجعل من المستقبل لا يبشر بأي خير إذا لم تتخذ الاجراءات اللازمة والضرورية لتحسينه فاليوم هناك اتفاق على أن كل المؤشرات والمعطيات سلبية فنسبة النمو لم تتجاوز النقطتين وهي نسبة لا تسمج بتوفير مواطن شغل للتخفيف من حدة البطالة واليوم العجز التجاري ازداد تفاقما نتيجة ارتفاع نسبة الواردات مقابل عدم تطور نسبة الصادرات وازدياد البضاعة الموردة الكثير منها يمكن الاستغناء عن توريده في المرحلة الحالية وهو اليوم يستنزف الكثير من العملة الصعبة التي تعرف هي بدورها تراجعا في مخزونها حيث نبه البنك المركزي إلى أن الاحتياطي من العملة الصعبة لم يسجل تطورا ملحوظا وهو في تراجع وإلى جانب ذلك فان نسبة الدين الخارجي قد ارتفعت الى ما يزيد عن 80 % من النتاج الوطني الخام وهي نسبة مخيفة جدا تجعل ميزانية الدولة في احراج كبير لخدمة هذا الدين . واليوم لدينا منظومة اقتصادية غير قادرة على توفير مواطن الشغل المطلوبة لاستيعاب الشباب العاطل عن العمل لأسباب عدة منها تراجع دور الدولة الاجتماعي وتراجع نسق الاستثمار الخارجي والداخلي واليوم كل المؤشرات تفيد بأن العجز الطاقي هو أحد الأسباب الكبرى التي جعلت الميزان التجاري مختلا وجعلت الدولة تنفق أموالا طائلة بالعملة الصعبة لتدارك هذا النقص الحاصل في مادتي النفط والغاز اللازمين لتوليد الكهرباء وتزويد السوق المحلية بما تحتاجه من نفط وغاز. فكل هذه الاكراهات وهذه الصعوبات التي هي اليوم نقاط ضعف الاقتصاد التونسي في مرحلته الراهنة والتي تمثل النزيف الحقيقي الذي يهدد الوضع العام بالانهيار ويستنزف المالية العمومية إذ لم يقع تدارك هذا النزيف. ولكن كيف تعاملت كل الحكومات المتعاقبة مع هذا الوضع الخطير ؟ وما هي الاجراءات التي اتخذتها لتدارك هذا الخلل وإعادة الاقتصاد الى سالف عافيته . ما يمكن قوله من خلال الوقوف على التصرف الحكومي بخصوص المخاطر التي تتعب اقتصادنا هو أن الاستراتيجية التي تم اتباعها هي إستراتيجية خاطئة أو على الأقل ليست في محلها ولا في توقيتها ففي مقابل النزيف الذي ذكرنا منه بعضا من صوره قدمت الحكومة وصفة تقوم على حزمة من الاصلاحات التي أطلقت عليها صفة الاجراءات الكبرى واعتقدت أن تحسين حال الاقتصاد متوقف على القيام بهذه الاصلاحات الكبرى المتمثلة في إصلاح المؤسسات العمومية التي تشكو عجزا في تمويلها والتي تسبب إرهاقا كبيرا لميزانية الدولة وإصلاح الصناديق الاجتماعية التي تعاني هي الأخرى عجزا في تمويلها وعدم قدرتها على تلبية حاجيات منظوريها من خلال الزيادة في سن التقاعد لإبقاء الموظفين سنوات إضافية في العمل وإصلاح منظومة الدعم الموجهة إلى المواد الأساسية والضرورية لحياة المواطن ودعم المحروقات وهو ما يمثل قرابة خمس الميزانية وأخيرا إصلاح منظومة الادارة والوظيفة العمومية بالتوقف على الانتدابات والتوقف عن الزيادة في الأجور. كل هذه الاصلاحات التي وصفت بالكبرى تعول عليها الحكومة لإنعاش الاقتصاد وإرجاعه إلى سالف وضعه المعتاد وهي مقاربة خاطئة لا يمكن أن تحقق المطلوب ولا يمكن ان توقف النزيف المتواصل لذلك فإن المطلوب المتأكد اليوم هو تغيير النظرة للحلول المقترحة والذهاب مباشرة إلى اتخاذ اجراءات من شأنها أن توقف النزيف الذي ينخر جسم الاقتصاد الوطني بدل التركيز على جملة من الاصلاحات التي ليس لها علاقة مباشرة بالمشكل الأصلي بما يعني وضع استراتيجية لمعالجة مشكل المديونية وإيجاد الحلول للتحكم في نفقات الدولة وخاصة نفقات التسيير والتحكم في الانفاق العمومي ووضع برنامج دقيق للتحكم في البضائع والمواد الموردة والسلع الاجنبية التي تستنزف مخزوننا من العملة الصعبة والمتعلقة اساسا بالبضائع التي تدخل البلاد تحت غطاء العلامات التجارية التي تسمح بإدخال الكثير من السلع في قطاع الملابس والأحذية وأخيرا إعداد استراتيجية لإعادة الاستثمار إلى نشاطة المعتاد وتوفير كل الظروف الملائمة لجعله لتوسع وتطوير من أجل خلق مواطن شغل جديدة وخلق حركية اقتصادية تسمح بخلق الثروة وتوفير العملة الصعبة التي تحتاجها البلاد. إننا نعتقد أن الخطوات المقبلة يجب أن تركز على فكرة ايقاف النزيف المالي والنزيف التجاري بدل تحويل كل الاهتمام إلى مسألة الاصلاحات الكبرى التي على اهميتها لا يمكن أن تحقق المطلوب الذي يلامس مسألة العجز في الميزان التجاري وموضوع ارتفاع نسبة التوريد وتراجع فرص الاستثمار الداخلي والخارجي وارتفاع نسبة الدين الذي وصل الى مستويات تهدد البلاد بالارتهان الى الجهات المانحة ومن وراء ذلك تفقد الدولة السيادة على قراراها السياسي والسيادي.