إن أَنْسَ فلا أخالني أنسى ذلك الطيّار الأمريكي الذي دعاني الى العشاء بمنزله بمدينة "جدّه" صحبة زوجته إثر عودتهما من زيارة سياحيّة أدّياها الى تونس في أواسط الثمانينات.. وكان يجمع بيننا ولع مشترك بعلم المصريّات "Egyptology" وبعلم الأهرامات "pyramidology" على وجه التحديد..وكان صديقي الأمريكيّ يفاخر بنجاحه في تسلّق الهرم الأكبر، أي هرم خوفو، وتمكّنه من قضاء ليلة كاملة داخل الهرم، وكان لا ينفكّ يروي لي عجائب ما حصل معه وما شاهده في تلك الليلة العجيبة ممّا لم يجرؤ على إثباته في كتابه الذي أصدره عن هذه التجربة لثقته بأن الناس سينسبونه الى الخرف والجنون.. وإثر العشاء انطلق هو وزوجته في الحديث والسؤال عمّا شاهداه بتونس التي أعجبا بما رأياه فيها أيّما إعجاب..وكان أكثر ما أثار دهشتهما أنهما شاهدا أعوان البلديّة بتونس العاصمة يغسلون الشوارع بالماء كل ليلة..ثم أطلعاني على مقطع فيديو التقطاه لأعوان البلديّة وهم يغسلون شارع بورقيبة ويوسعونه دلكا بالمكانس والماء المتدفّق من صنابير العربات.. وكان ذلك من أشد ما أثار لديهما العجب فيما شاهداه ببلادنا .. وفي أواسط الثمانينات زار تونس وفد من أمانة مدينة "جدّة" أي بلديتها صحبة أمين المدينة أي رئيس بلديتها آنذاك المرحوم"محمد سعيد الفارسي" وكان غرض الزيارة الاستفادة من التجربة التونسية في العمل البلدي خصوصا وأن بلدية تونس واحدة من أعرق البلديّات في العالم العربي إن لم تكن أعرقها على الإطلاق.. وقد عرفت مدينة "جدّة" مع سعيد الفارسي قفزة يضيق الكلام عن وصفها.. أقول هذا وقلبي يدمى حين أرى أكوام الزبالة تغطي وجه تونس الجميلة بسبب إضراب أعوان البلديّة عن العمل.. أقول هذا وقلبي يدمى حين يخترق الناس شوارع تونس في كل أنحائها فلا يرون إلا أكياس الزبالة التي خرّقتها الكلاب والقطط فتضوّعت بما يزكم الأنوف من روائح العفونة.. أقول هذا وقلبي يدمى ككل التونسيين حين أصبحنا نرى الفرج ونتباشر بخبر موافقة البلديّة وأعوانها على استئناف أعمال النظافة التي لا يقومون بها أصلا كما كانوا يفعلون أيام كانت شركات المناولة تفعل ذلك ولا يحصّل العون البلدي ربع ما يحصل عليه اليوم.. والدولة لا تحرّك إزاء ذلك كله ساكنا..الدولة مكسورة الشوكة..الدولة زمرة من المومياوات المحنّطة موكّلة بتحويل هذه البلاد الى خرائب..دهاقين يحرصون على عبادة القبح.