بات واضحا اليوم أن موقف ربع الساعة الأخير لحركة النهضة والقاضي بالانسحاب من المشاورات الحكومية في الوقت الذي كان فيه السيد إلياس الفخفاخ المكلف بتشكيل الحكومة يستعد لإعلام رئيس الدولة بما توصل إليه من مشاورات نهائية مع الأحزاب و الإعلان عن فريقه الحكومي قبل المرور به إلى برلمان الشعب لمنحه الثقة قد أربك كامل المشهد السياسي في البلاد قبل أن يدخل الأحزاب السياسية التي أبدت موافقتها على الانضمام إلى التشكيل الحكومي في حيرة وتشنج ما اضطرها إلى التفكير في السيناريوهات الممكنة والمتاحة للخروج من هذه الأزمة السياسية . فهل أخطأ إلياس الفخفاخ الطريق في تشكيل الحكومة حينما ألزم نفسه بما لم يكن ممكنا الالتزام به ؟ وكيف نفهم هذا التوتر الحاصل بين كل الأحزاب بخصوص مخرجات المشاورات الحكومية ؟ وما هي التداعيات السياسية جراء قرار حركة النهضة الخروج من المشاورات الحكومية وإعلانها في الربع الساعة الأخير أنها لم تعد معنية بتشكيل الحكومة وأنها لن تصوت لها في البرلمان ؟ بداية لا بد من الإقرار بأن موقف حركة النهضة القاضي بالانسحاب من الحكومة قد فتح الباب على مصراعيه لجدل سياسي ودستوري بخصوص المخرجات القانونية الممكنة لهذه الأزمة وكذلك الخيارات المتاحة لإدارتها فيما تبقى من مهلة زمنية دقيقة بأقل كلفة ممكنة وكذلك جدلا آخر حول طبيعة المرحلة المقبلة في ظل أزمة الثقة التي زادت دائرتها اتساعا بين كل الأحزاب بعد أن انقطع حبل الود بينها والفراغ الدستوري المتعلق بإمكانية حل البرلمان من قبل رئيس الجمهورية بعد فشل الشخصية المكلفة بتشكيل الحكومة و قبل انقضاء أجل أربعة أشهر الأجل المحدد لحل البرلمان . كما لا بد أن نشير إلى أنه لفهم ما حصل ويحصل من تطورات سياسية في علاقة بتعثر تشكيل الحكومة لا يكون وفق زاوية واحدة نختارها أو من منظور واحد تنحصر فيه وإنما المنهجية الأسلم للفهم هي تلك التي تراقب هذه الأزمة من زواياها المتعددة وتغوص في العقل المدبر والمفكر لكل طرف من أطراف النزاع . لذا وبناء على هذه المقدمات الضرورية فإنه يتعين الابتعاد عن كل الأحكام الانطباعية والعاطفية التي لا تفيد كثيرا في التحاليل السياسية خاصة ونحن نتعاطى مع مشهد سياسي تونسي معقد ومتداخل ومتحرك باستمرار و يتحكم في الكثير من تفاصيله المنطق النفعي الواقعي البراغماتي ومن هذه الأحكام المنفعلة الانطباعية ما نسمعه تعليقا على انسحاب حركة النهضة من المشاورات الحكومية الأخيرة من أن الخاسر الوحيد من هذا التعطل الحكومي هي تونس وأن تونس مسكينة مع هذه النخبة السياسية التي لا تفكر إلا في مصلحتها وأن هذه النخبة السياسية المتصارعة على الحكم لا هم لها إلا الغنيمة السياسية وأن الشعب قد غدر به بعد أن ضاعت مصالحه جراء الارتباك في تشكيل الحكومة وأن النهضة بإعلان انسحابها في الربع ساعة الأخير من زمن مشاورات تشكيل الحكومة قد أدخلت البلاد في أزمة عميقة وتسببت في مواصلة فترة الفراغ السياسي.. فكل هذه التعليقات هي تعليقات موجهة ومحكومة بموقف ايديولوجي ويمكن أن تنطبق على المشهد السياسي بعد إسقاط حكومة الحبيب الجملي غير أننا لم نسمع من قال حينها بأن من اسقط حكومة الجملي في الربع ساعة الأخير كذلك هو الآخر قد أدخل البلاد في أزمة خطيرة كما لم نسمع أحدا قد تحدث عن الشعب المتعب الجائع الفقير ولم نسمع أيضا من اتهم التيار الديمقراطي بعدم الوطنية بعد أن أخذ ما طلبه وانسحب في اللحظة الأخيرة من التشكيل الحكومي وكذلك ما حصل بين الشاهد القروي و باتفاق مع أحزاب أخرى ومنها حركة الشعب من تلاقي على عجل لإسقاط حكومة الجملي فكل هذه المواقف هي مواقف محكومة برؤية نفعية مصلحية واقعية تحتل فيها مكانة الحزب وتموقعه مكانة متقدمة وبالتالي لا يمكن أن نلوم أي حزب في ظل هذا المشهد السياسي المحكوم بأزمة ثقة حادة فيما يتخذه من مواقف. وحتى الاتهام بالابتزاز السياسي الذي يقال أن حركة النهضة قد مارسته حتى يقبل الفخفاخ بحركة قلب تونس داخل الحكومة يمكن أن يقال على التيار الديمقراطي وحركة الشعب في حكومة الجملي بعد أن رفعا من سقف مطالبهما ووسعا من نطاق شروطهما التي اختفت مع حكومة الفخفاخ من أجل الحصول على مغانم أكبر هو الآخر يمكن فهمه في إطار حرب المواقع وفي ظل المعركة السياسية حول من يتحكم في إدارة المرحلة المقبلة بكيفية متقدمة. بعد هذه المقدمات الضرورية نأتي الآن إلى تداعيات ما حصل فيما يسمى بإرباك الربع ساعة الأخير من المشاورات الحكومية والتي أجلت تشكيل الحكومة إلى موعد لاحق للقول بأن ما تم التوصل إليه بعد التشاور بين لياس الفخفاخ وقيس سعيد إزاء موقف حركة النهضة من الانسحاب هو التصريح " باستغلال ما تبقى من الآجال الدستورية لاتخاذ الخيارات الممكنة لما فيه مصلحة البلاد " فماذا يعني هذا الموقف ؟ في الحقيقة فإنه بالرجوع إلى أحكام الدستور لا نجد أمام رئيس الحكومة المكلف الكثير من الخيارات المتاحة للتعاطي مع أزمة تعطل المشاورات مع حركة النهضة وهي خيارات لا تخرج عن فرضيات ثلاث : الفرضية الأولى : الاستغناء عن وزراء حركة النهضة وتعويضهم بوزراء من كتل أخرى أو من نواب مستقلين – وهو مطلب التيار الديمقراطي - وفي هذه الحالة يضمن الفخفاخ تصويت نواب حركة الحزب الدستوري الحر الذي أعلنت رئيسته بأنها يمكن أن تصوت لحكومة الفخفاخ إذا لم تضم حركة النهضة وحينها نكون أمام حكومة من دون قلب تونس وحركة النهضة ولكن بعناصر مؤيدة من النظام القديم الذي يصفه الكثير من النواب بالفساد وبأنه هو سبب كل المصائب التي استفحلت بعد الثورة ونكون أمام وضعية قد يصعب معها حصول الحكومة على الحد الأدنى من الأصوات لمرورها. الفرضية الثانية : وهو خيار بدأ يطبخ بعد دخول كل من اتحاد الاعراف والاتحاد العام التونسي للشغل على الخط يدفع نحو ترضية حركة النهضة والاستجابة إلى شروطها المتمثلة في مقترحها توسيع الحزام الحكومي وتشريك الجميع إلا من استثنى نفسه و منحها عددا من الحقائب الوزارية تليق بحجمها البرلماني وإبعاد من الحكومة كل من تعلقت به شبهة المناشدة للرئيس السابق من دون أن ننسى التخلي عن فكرة إقصاء قلب تونس من المشاورات الحكومية. الفرضية الثالثة : وهي أسوء فرضية وهي القاضية بتمسك إلياس الفخفاخ بموقفه وإصراره على عدم تغيير ما أقره من تركيبة حكومية ومحاولة اقناع حركة النهضة بالبقاء في الحكومة من دون قلب تونس ثم الذهاب بهذا الخيار بعد يوم 21 فيفري الأجل الذي تنتهي معه مدة تكليف إلياس الفخفاخ دستوريا والتي على إثرها عليه أن يذهب الى البرلمان للحصول على الثقة وفي هذه الحالة فإن حكومة الفخفاخ سوف لن تمر وستسقط لعدم توفر النصاب لمرورها من دون أصوات نواب حركة النهضة لنجد أنفسنا أمام فراغ دستوري إذ أنه في هذه الفرضية لن يكون بمقدور رئيس الدولة حل البرلمان والدعوة إلى انتخابات مبكرة بناء على فشل الرئيس المكلف بتشكيل الحكومة إلا بعد مرور 4 أشهر على التكليف الأول أي تكليف الحبيب الجملي كما نص على ذلك الفصل 89 من الدستور و الذي كان يوم 15 بوفمبر 2019 بما يجعل من مدة الأربعة اشهر تنتهي يوم 15 مارس من العالم الحالي والسؤال المطروح إذا ما ذهبنا الى هذه الفرضية فكيف سنتعامل مع المهلة الفاصلة بين 21 فيفري تاريخ عرض حكومة الفخفاخ على البرلمان وفشلها في حصولها على الثقة و 15 مارس التاريخ الذي يعطي للرئيس حل البرلمان ؟ هذا السؤال يحيل على سؤال آخر : هل سيواصل الشاهد في إدارة الشأن العام كرئيس حكومة خاصة وأن الانتخابات المبكرة لن تجرى إلا بعد التهيئة لها وهذا يتطلب أشهر من الإعداد ما يسمح للشاهد بالمواصلة على رأس السلطة علما وأن الدستور لا يتعرض إلى صورة فشل الشخصية المكلفة من قبل رئيس الدولة عن تشكيل الحكومة قبل انقضاء مدة الأربعة أشهر لإمكانية حل البرلمان وهي الوضعية التي سكت عنها الدستور و لم ينتبه إليها من صاغ الدستور الجديد ؟ أم أن للمأزق مخرجا آخر يقوم على تأويل الفصل 97 من الدستور المتعلق بتوجيه لائحة لوم للحكومة ؟