دمرت الاحزاب والجمعيات التي برزت بعد الثورة بعددها الغير ضروري، والغير معقول، المشهد، اذ انتشرت كالجراد، مبرزة فقدان أهل السياسة والسياسيين، ولوحت لنا بمن ليس له وتر الوطنية، بل له جنسيات اخرى، يخدم ركابها، لأنها توفر له الملجأ، عند النكسة، والحصانة عند العدالة، والانخراط مع الغالب، والتنكر للمغلوب، والتباهي بالسيرة المغلوطة، والدفاع المستميت عن اولياء الامر، والاختفاء عند المحاسبة، حاول بعضهم القضاء على اجيال ولدت مع نهضة تونس تؤمن بالتحرر الفكري لبناء دولة تكون فيها السيادة للشعب، كنت كغيري من محبي تونس المجد والكرامة، اترقب من زعيم النهضة راشد الغنوشي الذي حقق حلمه بتوليه رئاسة مجلس نواب الشعب، وسيبوح لنا التاريخ بحقيقة خفايا ما وراء الستار، اترقب اذا مشروعا يعزز نظام المؤسسات، لبنائها على مزيد من الحريات، واعمال الفكر، وتظهر بذلك للعيان جدية النوايا الصادقة في خدمة تونس، وشاطرته اليد المفتوحة للجميع، التي ترددها كل الاوساط السياسية كمفتاح الفرج، وتداولت طيلة أشهر الاسماء، لحكم البلاد الذي ليس هو بهين، وان تجربة السنوات الاخيرة بقيادة احزاب، همها الحكم، ادت بالبلاد الى كوارث لا يمكن طمسها بمرور الزمن، لكن الدهشة التي تلت الثّورة اتت" الكورونا " لإزالتها، وكشفت المستور، وزال القناع، وان اجمع الشعب، وأحل محلها اتجاه آخر، حث فيه الناخب على منوال جديد للحكم، يقاسي منها اليوم مرارة عدم التجربة على جميع الاصعدة، وان اطنبوا على اعتمادهم على الائتلاف والوفاق، وكنت من الذين دافعوا في كتاباتهم على هذا المسار في البداية، و انطلت علي الحيلة كغيري، اذ كنا نؤمن بان دوام الدولة يكون بالرجوع الى ما يمليه من تنازلات عن التوجهات العقائدية، والطموحات الفردية، وكنت اذا أحلم كغيري، ان يغتنم اولي الحكم من تجربة الاخذ والرد، واختيار الوفاق، والرجوع الى الجادة في تسيير شؤون الدولة، مسارا يمر بالبلاد الى شاطئ الامان، واتت ذكرى شهداء 9 افريل، و ذكرى الزعيم الفذ الحبيب بورقيبة، لتحثنا على وقفة تأمل جديدة، والنظر بعمق وعقلانية الى ما صلت اليه البلاد من عناء، نتيجة عدم الاعتراف بالتضحيات الجسيمة في تخليص البلاد من وطأة الاستعمار، و في بناء دولة حديثة قواعدها صماء اسسها فكر اصلاحي نير، والى ما ادى بانشغال المواطن بصفة عامة والناخب بصفة اخص الى رفض السياسة ودواليبها، والالتجاء الى "فايس بوك" وما يحمله في طياته من مخاطر، تبعث بالمشارك الى هاوية البذاءة، والانحطاط المعنوي والاخلاقي، وفقدان اصالته و مبادئه، وهو امر مخيف ومزعج، يؤدي الى ما لا يحمد عقباه، اذا تواصلت نزعة الحقد والكراهية من الحكام الجدد، وهذه النزعة ليست من شيم الزعماء التي يذكر لهم التاريخ اعمالهم في سبيل رقي أممهم، ودفعهم في مسايرة التطور والازدهار لمن يريدون ذكرهم في التاريخ بالتمجيد والتبجيل، كما هو الشأن لبورقيبة ومناصريه في افكاره، وطرق عمله، وشفافيته في الحكم، وحرصه على بنائه، طول حياته، على اسس نشر التعليم، وتوفير الصحة، و حقوق المرأة، ومساواتها مع الرجل، وحمايتها من السقوط في هوة الرجعية، واتخاذ اصول المعرفة منهجا والنهوض بالطبقات الاجتماعية البائسة الى مستوى افضل هدفا، حتى لا تتسع الهوية بين مكونات الشعب كانت الذكرى فرصة ثانية لطي صفحات الماضي، وتصور مستقبل زاهر، يشترك فيه أعداء الامس، وخلان اليوم لبناء جمهورية ثانية حداثية، تناسى بعضهم أن الثورة من نبات بورقيبي، كان مناصروه على يقين من اندلاعها، طال الزمان أو قصر، نظرا لما آلت اليه أوضاع البلاد تحت حكم الانقلاب الطبي من تدهور، ومن ما سطا عليها من طغيان، من شرذمة جعلت مطيتها التملق، والاثراء، ولازالت على الربوة تترقب الفرص، للسير بالبلاد مجددا في طريق مظلم، كهؤلاء الذين استحوذوا على الثورة، واستولوا على الحكم في جميع مفاصله في السنوات الاخيرة، واستخدموا الاغراء المادي والمعنوي بأصنافه، متحدين الادارة، ومغتنمين الفرص لتزييف مسيراتهم الذاتية وتنويرها، مما يجلب لهم الاحتقار، وكم كنت حزينا لما ورد علي من وصف لمراحل حياة وزير الصحة، متمنيا ان تكون المعلومة خاطئة، ورجائي أن يفندها، لان في صدق مسيرته دعم للحقيقة، وكم وزارة الصحة في اوكد حاجة اليها، و منجزاتنا هي مفاخرنا لما تولى فريقنا العمل فيها، مقارنة بمن تولى ادارتها من بعدنا، وكفانا خدعا وخيبة امل من الذين يخدمون في الخفاء مصالح احزابهم، واغتنامهم الحكم، من شرعية احزابهم الوهمية، لتتبع من آمن بالفكر البورقيبي، ودافع عنه، وتحمل من أجله الاقصاء، والمتابعة في حياته الشخصية والمهنية، وكنت من بين هؤلاء، اذ بعد أسبوعين من التحول المشؤوم، أرجعت الى التدريس بعد خمسة عشر سنة من الالحاق بوزارات مختلفة، الوزارة الاولى، وزارة الشباب والرياضة، وزارة التجهيز، وآخرها وزارة الصحة، وأغلقت امامي كل ابواب التدرج في مهنتي، وكذلك الامر لزوجتي، وهي مساعدة في الطب، من ذوي الاختصاص في علم الدم، أوصدت أمامها أبواب التبريز على خلاف غيرها الذي تحمل مسؤولية في الوزارة. ثبتنا، على مر الزمن، على مبادئنا وتحملنا الامرين، وأتت الثورة المباركة، فأزاحت بن علي، وبعثت الأمل من جديد، وظهرت الحقائق ناصعة، وأصبحت مصلحة تونس، ونجاح تجربتها، فوق كل الاعتبارات، ولا شك ان الاحزاب السياسية، مهما كانت خلفياتها، ستؤكد على عدم قدرتها على بناء تونس الحديثة، لفقدانها برامج وتصورات للمستقبل، وارثها الايديولوجي، مهما كان نوعه، اثبت فشله على محك التجربة، ومن هذا المنطلق كان على الشيخ راشد ان يتصالح مع أجيال كانت فاعلة في بناء تونس، آمنت بالمنهج البورقيبي، ودافعت عنه، لأن الالتفاف حوله كان من واجب البناء والتشييد، ولم تكن تترقب من ذلك جزاء و لا شكورا، بل تعتبره تلبية لنداء الواجب، وخوض معركة التخلف، فكانت الانجازات، ولا أحد ينكرها الا الحاقدون الذين لم يشاركوا في رسمها، ولم يعملوا على تحقيقها، وان وقعت سلبيات أو انحرافات فهي من العمل البشري، يجب وضعها في اطارها الزمني لفهم مقاصدها ويقول مثلنا "من زرع المعروف حصد الشكر"، ولمن غابت عنهم الذاكرة أو اغتروا بالزعامة الظرفية، ان التاريخ لا يرحم، والاقتداء برئيس الدولة قيس سعيد لزيارة ضريح زعيم الامة الا نبراس امل لبناء المستقبل المشترك في صفحة جديدة، فيها الاعتراف بأمجادها، وبورقيبة سيبقى حاضرا كما ذكره الرئيس، بإرثه الثري، وفكره التنويري، ولنترك للمؤرخين المجال للحكم على ما كانت عليه تونس قبل الاستقلال وما أصبحت عليه في العهد البورقيبي، وكفانا من الذين يحاولون تزييف الحقائق، ولنا في السنوات المنقضية تجربة، وجب علينا، كل من مكانه تقويمها وتثمينها، ولا يمكن التهرب من المسؤولية على مخلفاتها سلبا او ايجابا، عند ذلك يمكن توارد الخواطر في مخطط منهجي للبناء والتشييد من جديد، يهم القضاء على الفقر، وعلى توفير المرافق الاساسية في كل المناطق، وعلى الحاجيات الحقيقية، التي تنبثق من المشاركة الفردية والجماعية في عمل التنمية، وعلينا جميعا ومن الضروري، مجابهة تقشي وباء الكورونا، بتنظيم محكم، و على غاية من المسؤولية، ونقول "شد دارك" لمن يجوب وسائل الاعلام، للتصدي لمن يخالفه الراي، او لحسابات سياسية لم يحن وقتها، فالوضع الصحي حرج للغاية، وسينجر عنه وضع اقتصادي صعب، لم يعرفه تاريخ البلاد من قبل، لذلك وجب على نواب الشعب و الوزراء ومعينيهم التخلي عن النشاط الحزبي، وكشف سيرهم الذاتية الحقيقية، ونشر ممتلكاتهم بكل شفافية، وللمزيد من شفافية الحكومة بيان صرف التمويلات التي تحصلت عليها تونس مؤخرا، والمقدرة بما يزيد عن 3900 مليار دينار وطوبى لكل النوايا الصادقة التي تصب في اعادة الصفوة الى اهلنا، وكلنا كالرجل الواحد في خدمة تونس لا غير... * دكتور في الاحصائيات- دكتور في الاقتصاد- شهادة تكوين مستمر بجامعة هارفارد- شغل رئيس ديوان وزيرة الصحة...