ان القارئ لقوله تعالى (يا ايها الذين امنوا ادخلوا في السلم كافة ولا تتبعوا خطوات الشيطان انه لكم عدو مبين فان زللتم من بعد ما جاءتكم البينات فاعلموا ان الله عزيز حكيم) سورة البقرة 208/209 مطالب دينيا بان يعرف معنى الذين امنوا ومعنى السلم ومعنى خطوات الشيطان ومعنى زللتم وما العلاقة بين هذا الكلام وبين عزة الله وحكمته؟ ولئن تبدو هذه الكلمات واضحة منذ اول وهلة الا ان المعنى اكبر واعمق واكثر دقة مما يتبادر الى الذهن في الوهلة الأولى وسنعرف ذلك بالتفصيل من خلال تفسير الشيخ ابن عاشور رحمه الله الذي يقول(استئناف على طريقة للاعتراض انتهازا للفرصة الى الدخول في السلم ومناسبة ذكره عقب ما قبله ان الايات السابقة اشتملت على تقسيم الناس تجاه الدين مراتب اعلاها (من يشتري نفسه ابتغاء مرضاة الله)لان النفس اغلى ما يبذل واقلها(من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الهب على ما في قلبه وهو ألد الخصام) اي يضمر الكيد ويفسد على الناس ما فيه نفع الجميع وهو خيرات الارض وذلك يشتمل على انه اعتدى على قوم مسالمين فناسب بعد ان يدعو الناس الى الدخول في السلم ...والخطاب (يا ايها الذين امنوا) خطاب للمسلمين على عادة القران في اطلاق هذا العنوان...والسلم بفتح السين وكسرها مع سكون اللام...وحقيقته الصلح وترك الحرب...قالوا ويطلق السلم على دين الاسلام...فكون السلم من اسماء الصلح لا خلاف فيه بين ائمة اللغة فهو مراد من الاية لا محالة وكونه يطلق على الاسلام اذا صح ذلك جاز اي يكون مرادا ايضا ويكون مع استعمال المشترك في معنييه فعلى ان يكون المراد بالسلم المسالمة ...كان المعنى امرهم بالدخول في المسالمة دون القتال...فاما اذا فسر السلم بادين الاسلام فان الخطاب (يا ايها الذين امنوا) وامر المؤمنين بالدخول في الاسلام يؤول بانه امر بزيادة التمكن منه والتغلغل فيه...وقيل المراد بالذين امنوا من اليهود كعبد الله بن سلام فيؤول ادخلوا بمعنى شدة التلبس اي بترك ما لم يجئ به الدين لانهم استمروا على تحريم السبت وترك شرب ألبان الابل... ويجوز ان يكون المراد من السلم هنا المعنى الحقيقي ويراد السلم بين المسلمين يامرهم الله تعالى بعد ان اتصفوا بالايمان بالا يكون بعضهم حربا لبعض كما كانوا عليه في الجاهلية وبتناسي ما كان بين قبائلهم من العداوات ...وقوله (ولا تتبعوا خطوات الشيطان) تحذير مما يصدهم عن الدخول في السلم المأمور به بطريق النهي عن خلاف المامور به...وقوله تعالى(فان زللتم من بعد ما جاءتكم البينات فاعلموا ان الله عزيز حكيم) تفريع على النهي اي فان اتبعتم خطوات الشيطان فزللتم ...واراد بالزلل المخالفة للنهي واصل الزلل الزلق اي اضطراب القدم وتحركها في الموضع المقصود اثباتها به واستعمل الزلل هنا مجازا في الضر الناشئ عن اتباع الشيطان...والبينات الأدلة والمعجزات ومجيئها وظهورها وبيانها ...وجيء في الشرط بان لندرة حصول هذا الزلل من الذين امنوا او لعدم رغبة المتكلم في حصوله ان كان الخطاب لمن امن بظاهره دون قلبه وفيه اشارة الى ان ما خامر نفوسهم من كراهية الصلح هو زلة عظيمة وقوله( فاعلموا ان الله عزيز حكيم) جواب الشرط...والعزيز فعل من عز اذا قوي ولم يغلب...والحكيم يجوز ان يكون اسم فاعل من حكم اي قوي الحكم ويحتمل انه المحكم للامور ومناسبته هنا ان المتقن للامور لا يفلت مستحق العقوبة فالكلام وعيد والا فان الناس كلهم يعلمون ان الله عزيز حكيم...) (التحرير والتنوير الصفحات من275 الى 280 الجزء الثاني المجلد الأول) فهل تخفى بعد هذا التحرير وهذا التنوير للشيخ الطاهر بن عاشور مكانة السلم في الاسلام الذي استهان به المسلمون حتى في الأشهر الحرم وحتى في شهر رمضان فزلوا وضلوا وابتعدوا عن اوامر ربهم الرحيم الرحمان واستحقوا ما هم فيه اليوم من الذل ومن الضعف ومن الهوان وهل عرفنا كل هذه المعاني السامية الرفيعة الا بعد ان تدبرنا مع الشيخ ابن عاشور هذين الآيتين من القران فمزيدا من التدبر يرحمكم الله ولا حول ولا قوة الا بالله.