يعرف المشهد السياسي في الآونة الأخيرة حالة من التوتر الحاد بين مختلف الأحزاب السياسية والكتل البرلمانية وحتى مكونات المجتمع على خلفية أزمة الحكم في تونس وتصاعد الخلافات المباشرة وغير المباشرة بين الرئاسات الثلاث في أكثر من محور اهتمام وقضية وخاصة الاستحقاقات الداخلية التي يعتبر الملف الاجتماعي أبرز عناوينها وكذلك المواقف من مختلف القضايا الخارجية و أهمها الموقف من النزاع المسلح في ليبيا والاصطفاف السياسي وراء السراج أو حفتر. وقد تحول هذا التوتر من جدال تقبل به الديمقراطية داخل قبة مجلس نواب الشعب وتتحمله المنابر الإعلامية المكان الطبيعي لإدارة الخلافات السياسية إلى أطر أخرى وخرج إلى الشارع والفضاءات العامة واتخذ شكلا حذر منه الكثير من المراقبين خاصة بعد أن تحول إلى دعوات إلى الاعتصام والاحتجاج للمطالبة بتنحية رئيس مجلس النواب ومحاسبته على سلوكه وتصرفاته التي يراها البعض متعارضة مع اختصاصات ومهام رئيس الجمهورية وتعرض المصالح العليا للدولة التونسية إلى التهديد في إشارة مباشرة إلى ما يقوم به رئيس حركة النهضة راشد الغنوشي من تحركات وخاصة الموقف الذي اتخذه من النزاع الليبي واصطفافه مع حكومة الوفاق الوطني بقيادة السراج ودعوات أخرى تدفع الناس إلى التظاهر والاعتصام من أجل تغيير النظام السياسي وتغيير شكل الحكم وحل مجلس نواب الشعب باستعمال الشارع وباستعمال أدوات من خارج اللعبة الديمقراطية ودون الاحتكام إلى نتائج الانتخابات. المهم في هذا الحراك السياسي الذي تشهده البلاد ليس في إثارة مثل هذا الجدل السياسي والذي يتخذ في بعض الأحيان طابعا قانونيا وهي مسألة عادية وطبيعية وظاهرة صحية في بلد يسير على خطى ثابتة من أجل تركيز حياة الديمقراطية وملتزم بمخرجاتها وأهمها حرية التعبير على الرأي والتعبير عن الاختلاف وإنما المهم والمفيد في كون هذا الصراع الفكري والسياسي والذي تخلى عن آلياته الديمقراطية و الدستورية وانتقل إلى دعوات لإسقاط منظومة الحكم وتنظيم اعتصامات لحل البرلمان وتغيير النظام السياسي في كونه قد طرح سؤال الشرعية والمشروعية وأبرز بكل وضوح أن الجهات والشخصيات التي تدعو اليوم الى الاعتصامات إنما هي تتحرك وفق فكرة جوهرية تعتبر أن الشرعية الانتخابية لا تمنع من تغيير المشهد السياسي وإخراج من جاءت بهم الديمقراطية إلى الحكم والسلطة من خلال الشارع وآلية الاحتجاجات والاعتصامات غير أن المشكل في هذا الجدل الفرعي بين من يطالب باحترام الشرعية الانتحابية و يجرم كل من يريد أن ينقلب على الآليات الدستورية للتغيير والالتفاف على ما أفرزته العملية الانتخابية والالتزام بقواعد اللعبة الديمقراطية واعتماد التغيير السلمي عبر المشاركة في الانتخابات والفوز فيها وبين من يرى أن الشرعية الانتخابية لا تحول دون تغيير المشهد السياسي كلما فشلت المشروعية الواقعية للأحزاب والقوى الحاكمة وكلما اتضح فشل أصحاب الشرعية في تحقيق النتائج التي ينتظرها الشعب بما يعني أن أصحاب هذا الرأي يرون أنه طالما فشلت النخبة السياسية التي تحصلت على شرعية انتخابية في تحسين الأوضاع وكانت عبئا على الديمقراطية ومعطلا للإصلاح ومقاومة الفساد فان المشروعية الواقعية تعطي للشعب أن يطالب بعزل من فشل وإزاحته وكذلك حل الهياكل المنتخبة التي اتضح عجزها من دون انتظار موعد انتخابي جديد ومن دون الاحتكام إلى الآليات الدستورية وذلك من خلال تنظيم الاعتصامات والاحتجاجات والتمرد هلى السلطة والحكم وتحريك الشارع. المشكل في هذا الجدل بين أيهما أولى الشرعية أم المشروعية ؟ وهل نحتكم إلى الشرعية الانتخابية أم نغلب مشروعية الشارع وأحقية الناس في تغيير المشهد السياسي من خارج المنظومة الديمقراطية ؟ المشكل أن الذين نراهم اليوم يحشدون الشارع ويدعون إلى التغيير عبر تنظيم الاعتصامات والاحتجاجات هي جهات في معظمها قد خسرت الانتخابات وكان حظها بالفوز فيها معدوما وقد خرجت من المشهد السياسي صفر اليدين أو أنها جهات لم يعجبها ما أفرزته صناديق الاقتراع من نتائج ولم ترض بمخرجات العملية الديمقراطية وما أظهرته نتائج الانتخابات وفقدت حضورها السياسي في المشهد السياسي وفقدت مواقعها ومراكزها ولم تقبل بالهزيمة التي أبعدتها عن التأثير في الحياة السياسية لذلك نراها اليوم تتعجل العودة إلى المواقع المتقدمة التي فقدتها من غير الطريق الذي يوصلها ومن غير الباب الذي عجزت عن الدخول منه ونراها تغلب فكرة المشروعية على فكرة الشرعية ونراها تركز على شرعية الشارع وتحريك الجماهير وتأجيج الشعب ضد منظومة الحكم التي جاءت عبر الشرعية الانتخابية وتعتبر أن الشرعية لا قيمة لها أمام المشروعية الواقعية وأمام مشروعية الجماهير . المفيد الذي نخرج به اليوم بعد هذه الدعوات التي نسمعها اليوم تطالب بتنظيم اعتصامات مختلفة من وراء عناوين وشعارات مختلفة لتحقيق مطالب من خارج الآلية الديمقراطية ومخالفة للقوانين الديمقراطية هو أن قاعدة الفرز اليوم لم تعد بين من هو مع الثورة وبين من هو مع الثورة المضادة ولا بين من هو مع الانتقال الديمقراطي وتحقيق أهدافها واستحقاقاتها وبين من هو مع المنظومة القديمة وبقايا التجمع المنحل والدولة العميقة وإنما قاعدة الفرز البارزة اليوم هي بين من هو ديمقراطي وملتزم بقواعد الصراع والتغيير الديمقراطي وبين من يريد الانقلاب على الآليات الدستورية ويريد تغيير قواعد اللعبة الديمقراطية التي لم تحقق له أهدافه فالاستقطاب اليوم لم يعد إيديولوجي بين إسلامي وعلماني أو بين حداثي ومحافظ وإنما الاستقطاب اليوم هو بين من يعمل على تركيز المسار الديمقراطي واحترام التمشي الدستوري في الوصول إلى الحكم والسلطة وبين من يريد صناعة مشهد سياسي جديد بقواعد يضعها هو بمفرده وبالعودة إلى آليات ووسائل منظومة الحكم القديمة التي لا تحترم الديمقراطية ولا الفكر والثقافة الديمقراطية إن الفرز الحقيقي اليوم هو بين من يريد الاحتكام إلى الشرعية الدستورية والشرعية الانتخابية واحترام قواعد اللعبة الديمقراطية وبين من يريد تغليب مشروعية الشارع واسترجاع ما خسره في الانتخابات باستعمال الشارع وتحريك الجماهير والانقلاب على كل شيء وخلط الأوراق من جديد.