خرجت من عزلتي المفروضة من لدن من لا يُسمع ولا يُرى، وهو المخيف الرهيب، وبحكم من خافوه وخشوا أضراره فأصدروا الأحكام بملازمة الإحجام عن الخروج وتخطي عتبات البيوت، تحفظا من بطش الزائر الرهيب، الذي "جرثم" الناس متساوين، فقعدوا ولزموا البيوت والمساكن، فلم أشذ وليس بمقدوري أن أشذ. خرجت مستغلا السماح لنا بساعتين صباحا، وأخرى عشية، فجعلت أطوف في المدينة وكأني بحّاثة مكتشف. شعرت فعلا بأني مكتشفُ مدينة غيّرت ما بنفسها، فتغير وضعها ومظهرها فبدت غير ما كانت عليه. اكتشفت مدينة هادئة ساكنة، زال ضجيجها، قلت حركتها، صفي ونقي مناخها وأجواؤها، وزادت رحمة الله فوهبت أمطارا خفيفة متواصلة، تتبادل الساعات مع شمس حارة مضيئة، فأينعت الأشجار والأزهار والنباتات، فبدت بأوراق نظيفة لمّاعة تدخل البهجة والراحة على من يرها ويشاهدها، وحتى العصافير عادت فحلّقت وزغردت وشدت فزادت الأجواء طيبة وسرورا. واصلت تجوالي فرأيت على الرصيف المقابل، رجلين مكمّمين، يتبادلان الحديث وبينهما فاصل يقرب من مترين، فحضرتني أغنية لفريد الأطرش، طالما ردّدناها وطربنا لها، أيام المراهقة والشباب، أغنية مطلعها " كفاية أشوفك من بعيد لبعيد ** ولو قضيت العمر كله فريد ". لست أدري إن كان ناظم الكلمات متنبئا فوصف حالنا وأوضاعنا، أو هو مجرّد نفثات خيال شاعر ولهان، أحرقه لهب البعاد والهجران. واصلت سيري مترنّما لحن الأغنية في همس مريح، بينما الخيال يحلق حرّا طليقا، فيرى ما لا يرى، ويتصوّر ما لا صورة له. دخل بي خيالي مدرسة أثناء حصة الاستراحة، فرأى في ساحتها الأطفال موزعين فرادى، يبدو عليهم الجمود فتخيلتهم أعمدة وأصناما، إلا اثنين غامرا فوقفا، يواجه أحدهما الآخر، يتبادلان قذف ممحاة، حسب ظني، سقطت في إحدى المرات بينهما فتقدّم المستلم ليلتقطها، فإذا بسوط المشرف المراقب ينطلق زاجرا: " ابعد ولا تقترب، فالفاصل بينكما متران لا أقل." انسحب الطفل فبقيت اللعبة، بل هي الممحاة اللعبة، طريحة حيث سقطت، إذ علا صوت صفارة نهاية الاستراحة، فجرى التلاميذ، كلّ نحو فصله، ليقفوا صفا طويلا نظرا للمسافة الفاصلة بين كل تلميذين. ولج بي خيالي الفصل صحبة الطلبة، فها هم يجلسون فرادى، منفصلة مقاعدهم، حتى أنه لو مدّ أحدهم ذراعه لأخذ شيء من يد رفيقه المجاور، لما استطاع. عندها عاد بي خيالي الحالم الطيار، إلى عهد صباي وشبابي، فرأيت الفصول والأقسام مكتظة، أقل عدد في كلٍّ منها ثلاثون تلميذا، وأكثر بكثير في بعض المناطق. حمدت وشكرت وعاد بي خيالي حيث كنّا، فرأيت وسمعت المعلّم وهو مواجه الطلبة لا ينزل من منصته تحت السبورة ولا يقترب، يشرح لهم عملية حسابية، فاغتنم تفاصيلها، فعرج يوصي وينصح ويشرح وجوب وفوائد الاتحاد وضم الصفوف. لم يُفلت انتباه الطلبة ما بدا من تناقض بين الواقع وما ينصح به المعلم، فرفع أحدهم يده طالبا الكلمة فسمح له فقال:" سيدي لم أفهمك جيّدا بسبب الكمامة. لو خلعتها لكان صوتك أوضح." فعلّق آخر كأنه من محبّي المزاح، بصوت بين الهمس والجهر، فأضاف " وهكذا نتأكد من أنه معلمنا حقا، وليس آخر تسرّب متطفلا." ضحك الأطفال فطالبهم بالسكوت، وانساب يشرح وجوب احترام الأوامر خاصة هذه التي تتوقف عليها مناعتنا وصحتنا. حولقت وابتسمت تعبيرا عن قلة اقتناعي، فكأن خيالي غضب لذلك فخرج بي وانصرفنا. ما هي إلا برهة وإذا بخيالي يحط بي في إحدى الإدارات حيث كان المدير يصيح وينهر موظفا، آمرا إياه بالعودة فورا إلى بيته والعمل من هناك. قال الموظف متلعثما خجولا، كيف أعمل بلا حاسوب؟ اشتر لك واحدا، فماذا تنتظر؟ من أين لي... قاطعه المدير يأمره الخروج، أي الغروب من أمامه، ولم يتركه يفهمه أنه غير قادر على شراء الحاسوب، وعاجز عن معالجته والإبحار به كما يجب. لكن " أمر السلاطين طاعة" و" دبر يا وزير، وإلا رأسك يطير" حسب فلسفة أمثالنا الشعبية. تألم خيالي كما تألمت، فحولق هو الاخر قبل أن أفعل، وطار مسرعا يبحث عن هواء نقي صاف يستنشقه، فيزيل ما علق بنفسه الحساسة من أي دنس. رماني في مزرعة وارفة، ثمرها كثير وظلها ظليل، انتشر الفلاحون فيها يعمل كل منهم على حدة، لا حديث ولا تعليق، ولا استشارة ولا تطبيق، منطوٍ كل فلاح على نفسه يجتر أفكاره أو همومه، من يدري، فافتقدت الغناء والإنشاد والسرور، الذي عهدته لدى الفلاحين وهم يعملون. فانزويت في ظل شجرة متسائلا كيف يمكن تأدية العمل الشاق، تحت مختلف مؤثرات الطقس والمناخ، من برد وحرّ وريح ومطر، دون تسلية النفس بالغناء والإنشاد، بالمزاح والضحك، وبتبادل النوادر والطرائف، ولو صياحا؟ قبل أن أجد لتساؤلاتي جوابا اختطفني خيالي ثانية وجعل يحلّق فوق المدينة كأنه مثلي يكتشفها من جديد، إلى أن حط بي داخل أحد المصانع، دارت فيه الآلات، وارتفع ضجيجها، وأصمت الأسماع أصوات محركاتها، فبدا العمال منكبين صامتين، متحمّلين بصبر وعزيمة، ما حولهم من ضجيج والكمامات على أفواههم كأنها جعلت ليصمتوا ولا يفوهوا بكلام. لم يكن خيالي ليرتاح في مثل ذلك الصخب، فانصرف مسرعا تاركني بين أحضان واقع جدّ ثقيل، فعدت مسرعا إلى البيت قبل أن يفوت الوقت المسموح به، فأتعرّض إلى مخالفة قد يعجز جيبي عن أداء مبلغها. قبعت بالبيت وأخذت كتابا كنت أطالعه، فلم أستطع تركيز ذهني لفهم ما أقرأ. أغلقت السفر، عدت لتأملاتي ومقارناتي وأحلامي، وخشيتي، أو هو خوفي، ممّا يدور في خلدي متأثرا شديد التأثر بما جنته عليّ جولتي في شوارع المدينة، بعد شهرين تقريبا من العزلة والانفراد. جولة، كما قلت آنفا، كانت أقرب إلى اكتشاف، لأن المدينة لم تعد تلك التي كانت، وما هيمن على فكري، بعد العودة من رحلتي الاستكشافية، هو أني آمنت وأيقنت، أن ما شاهدته أثناء الفسحة، وإن لم تكن جديرة بحمل هذا النعت، ما هو في الواقع إلا صورة مصغّرة لما هو قادم لاشك فيه، وسنكون مجبرين على التأقلم معه، فتتغيّر طباعنا، وأخلاقنا، وأساليب وطرق ووسائل معاملاتنا، فنتلوّن، إن شئنا أم أبينا، بألوان العهد الجديد، عهد البعد والتباعد، عهد الفردية والانفصال، عهد التقنية قبل الإنسان، عصر الوسائل المادية العملية قبل البشر، فيصبح المرء، الإنسان الذي علمه الله البيان، لا قوّة له ولا إرادة، إلا بحسبان، تمليه بإيحاء تلك الوسائل ومَن وراءَها بإتقان، ينزع من المرء ما كان له من شأن. هذه، برسم مبدئي، وبخطوط تقريبية، صورة حياتنا، وعيشنا، ومسيرتنا المستقبلية، منزوعة منها خصائصها البشرية والإنسانية. فيبقى السؤال مطروحا، فارضا نفسه، يطالب بالجواب، ولست أدري إن كان سيجد مجيبا. سؤال جامع يشمل كلّ ما هو غير مادّي فينا، يشمل الجوانب التي خصّ بها الله الإنسان عن باقي مخلوقاته، أعني المشاعر الباطنية، الأحاسيس العاطفية، أعني المحبة والأخوة والقرابة والجيرة والزمالة، وكل ما يخالج الإنسان وبه تساوى مع أخيه الإنسان. هل سيبقى لتلك الخصائص والميزات البشرية مكان وقيمة ومفعول؟ أم سنصبح آلات جامدة، تُسَيّر عن بعد، وتعمل حسب إملاءات مادية، تأتي عن طريق آلات وأجهزة؟ من يستطيع الإجابة فليفعل، أما أنا فأعترف بعجزي معتبرا ذلك من الغيبيات ولا يعلم الغيب إلا الله. مدريد في 20 – 5 – 2020.