عرفت في ليبيا مدينة جميلة شامخة، ثرية الموارد غلالا وثمارا، وعرفت كثيرا من أهلها، طلبة علّمتهم، وأصدقاء احترمتهم، ومسؤولين تابعت إنجازاتهم، فكانت الحصيلة أكثر من مرضيّة، بالنسبة لي على الأقل. تقول الأمثال الشعبية الكثيرة بخصوص الأصول والجذور، ولأهميتها في تصرفات وسيرة الأفراد، ومن ثَمَّ تقييمهم والحكم لهم أو عليهم، تربية وأخلاقا ومعاملة وسيرة. يحضرني الآن المثل القائل: "كسكس لُه، يرجع لأصلُه" أو الاخر الذي يقول:" إذا غاب عنك أصلُه، أنظر فِعلُه" فأنا نظرت ولمست أفعال الذين عرفتهم من يفرن، فعرفت الخصال الحميدة، والإيمان الصادق البعيد عن كلّ تعصّب أو تطرّف، وكثير غير هذا مما يُحمد ويُثنى عليه. كلّ هذا، يجعلني الآن أقول، أن لا غرابة، فالأصل عريق مجيد، عرفته بعثوري على نبذة من تاريخ الإفرينيين أو اليفرينيين، أو الإفرانيين، فعرفت أمجادهم وثوراتهم وبعض أعمالهم، سأسمح لنفسي إشراك القراء فيها، بغية زيادة التبادل المعرفي المفيد. إنّ أول وأهمّ وأثمن وأحوج ما نحتاجه هو معرفة تاريخنا معرفة علمية دقيقة شاملة، كي نعرف حقا من نحن، من أين أتينا، فنعرف كيف وإلى أين نسير. أبناء جيلي مثلا، لم يُعلّمونا إلا تاريخ المستعمر بكلّ دقائقه. والقليل الذي استطاع معلمونا الوطنيون، جازاهم الله عنا كلّ خير، تلقيننا إياه، انحصر فيما كان يٌعتبر خير سلاح للحفاظ على الهوية، ومقاومة المستعمر الدخيل، أعني الإسلام والعروبة. هاتان المفردتان ركزتا التوحيد والوحدة، فغُضّ النظر عن حقيقة الفسيفساء الإثنية العرقية التي تميّزت بها بلادنا. كبرنا وبحث كلّ منا عن المزيد، فتوسّعت المعلومات، بالمطالعة، وعن طريق المحاضرات التي كان يجود بها الراسخون في العلم، من أمثال حسن حسني عبد الوهاب أو عثمان الكعاك، لكن بقيت معارفنا التاريخية محصورة منقوصة، اختلط غثها وسمينها، إلا من تخصّص في التاريخ وما إليه. كنت أظن أنني عرفت الكثير من تاريخنا، لكن، كلما تقدّمت السن، واتسعت المطالعة، إلا وتأكدت من أني " ما أوتيت من التاريخ إلا قليلا " وما عليّ إلا أن أبتهل إلى الله وأقول: "ربي زدني علما." سبق لي نشر مقال على هذه الصحيفة، خصصته للتعريف بمدينة روندا، بولاية مالقة بالجنوب الشرقي من شبه الجزيرة الإيبيرية، إسبانيا، التي تباهت ولا تزال، وما زالت تتباهى بتاريخها الذي جعلني أطلع على جانب من تاريخنا المغاربي، لم أكن أعرف منه إلا شذرات. قلت عن روندا: فتحها المسلمون سنة 713 م، وكان الفاتح هو القائد البربري – الأمازيغي بلغة اليوم - زائد بن قصادي السبسكي . منذ ذلك العهد، تطورت المستعمرة فأصبحت مدينة تسمى حصن رُنْدا. عرفت المدينة إذن تطورا جعل منها حاضرة، حيث شيّدت المعالم أشهرها القلعة القائمة الى اليوم. وعندما أخذ المسلمون الأندلسيون في التشتت وتبعثرت كلمتهم، فظهر ما عرف بملوك الطوائف، لم تشذّ روندا، فأصبحت هي أيضا مملكة تحت إمرة بني إفران الأمازيغيّين. كان زعيمهم يدعى أبو نور هلال بن أبي قرة، الذي عرفت رُندا في عهده حضارتها وازدهارها، ومعظم معالم المدينة شيدت في عهده. هنا جاء التشابك، فربطت بين يفرن، المدينة بالجبل الغربي من ليبيا، وما أنا بصدده، فتعمقت بالبحث، فعرفت أن الإفرينيين هم بنو يفرن، بن إفران – أو إفراراغس - سلالة بربرية، بمنطقة جبال الأوراس، بالقطر الجزائري، وهي فرع من مدغيس (مدراسن) ومن بطرع، ينتمي إلى الفرع الكبير الزناتة. هم أول سلالة حاكمة إسلامية بربرية، حكمت المغرب – شمال إفريقيا – ويقول بعض الباحثين إن اسم إفريقيا ينحدر من اسم قبيلة إفرن. قام الإفرينيون في شمال إفريقيا بانتفاضات مستمرة ضد المحتلين من رومان، ووندال، وبيزنطيين وغيرهم...انضموا إلى الكاهنة في القرن السابع، في مقاومتها ضدّ الأمويين. أما في القرن الثامن، فقد اجتمعوا حول عقيدة السافاريني (شرحها المفتي محمد السافاريني 1702 – 1774 – في كتاب "لوائح الأنوار البهية ") ليثوروا ضد السلطات الأموية والعباسية. أسسوا بعد ذلك، في القرن العاشر وبقيادة يالا بن محمد، سلالة مالكة، وأنشأوا مدينة إفران، تسمى اليوم " فرندة" وتقع بولاية تيارت بالجزائر. كرّسوا جهودهم لمجابهة الفاطميين والزيديين والأمويين. لكن انهزم بنو يفرن بعد ذلك بانتصار المرابطين وتحالف الهلاليين والحمّاديين وذلك حوالي نهاية القرن الحادي عشر. اعترف التاريخ والمؤرخون، لسلالة الإفرينيين بأنها الوحيدة التي دافعت عن الأفارقة في شمال إفريقيا أو ما يسمى بالمغرب.أما في الأندلس فقد نجح بنو يفرن في احتلال وتشييد مدينة " روندا " في القرن الحادي عشر وحكموا قرطبة، طيلة، عدة سنوات. هذه نبذة مختصرة موجزة، عن يفرن وبني إفران، قطعة أو مربع من مربعات فسيفسائنا الإثنية المغاربية، لعبت دورا كبيرا، بخيره وشره، في مغربنا وفي الأندلس، فأسسوا وشيدوا، كما حاربوا وهزموا وانهزموا، سنة الحياة وتقلباتها، صوّرها أحسن تصوير أبو البقاء الرُّندي حين قال في مرثيته الشهيرة: لكل شيء إذا ما تمّ نقصان ** فلا يُغرّ بطيب العيش إنسان. نبذة أوحتها إليّ مدينتا روندا بالأندلس، ويفرن بليبيا، مؤكدتين، لمن هو في حاجة للتأكيد، أنّ برامجنا التعليمية منقوصة مقصرّة في حق التاريخ وتعليمه، وأن كلّ قطر من أقطار مغربنا الكبير، له تواريخ ثلاثة: تاريخ معاصر خاص، تاريخ العهد الاستعماري، وتاريخ مشترك بينه وبين بعض أو كل أقطار المغرب الكبير. أعني بالتاريخ المعاصر، فترة ما بعد الاستقلال حتى هذه الساعة. فترة الاستعمار معروفة لكل قطر، أما التاريخ المشترك فهو صاحب الحظ الأوفر من النسيان والإهمال، وهو الذي يحتاج إدماجه، بصورة بيداغوجية علمية، في مناهج التعليم بكل قطر من أقطار مغربنا، لأن الحدود والانفرادية المقامة اليوم، وعلى ضوئها وبموجبها، نتعامل، ونتواصل، ونضع المخططات السياسية، والاقتصادية، والثقافية، وغيرها، ليست هي حدود الماضي ولا مفهومها هو نفس مفهوم الماضي. يكفي التذكير بعهد الفاطميين، بأن نرى أن كل الشمال الإفريقي، من المحيط الأطلسي إلى قناة السويس، دولة واحدة، أو سلطة واحدة، رغم حفاظ كلّ ركن من الأركان بخصائصه ومميزاته. كذلك في العهد الروماني، والنوميدي، والقرطاجي، والحفصي، فكلها جمعت أو وحدت، بطريقة أو أخرى، بين ما هو اليوم خمس دول، بحدود معظمها رسمه الاستعمار حسب حاجياته آنذاك، " ألزم " الوطنيون الاعتراف بها عند الاستقلال، وهي اليوم مغربنا الكبير الذي يكثر الكلام بشأنه وهو طريح الفراش، أرجو من الله ألا يكون فراش الوفاة. لكن، هذا موضوع آخر، كتبت، وكتب عنه آخرون، طوال عقود، ولا نزال ننتظر ونأمل. طرق سمعي أن النية معقودة على إدخال تغييرات جذرية على مناهج التعليم، كي تصبح موازية مستجيبة لمتطلبات العصر، بإدراج علومه التقنية المستحدثة، ومن ثّمَّ تمكين الدارسين بأن يتزوّدوا بما هو صالح مفيد، يساعد على مقاومة متطلبات الحياة ويزيد، فينهل كلّ طالب ما يبتغي ويريد. فهل سيكون للتاريخ الصحيح الشامل المفيد، نصيب من هذه التغييرات والإصلاحات؟ هذا ما نأمله ونعتبره ضروريّا لازما مُلزما، لأن التاريخ الصادق النقي من أيّة مُلوّثات وتحريفات سلطوية، سياسية، عقائدية، وغيرها مما يأتي به التعصب والأنانية فيُسخر التاريخ ويُزوّر، هذا التاريخ الصافي من أي دنس، هو عماد من أعمدة الشخصية والهوية والشعور بالانتساب. مدريد في 22-5-2020.