حضرت صباح يوم السبت 11جويلية ندوة استثنائية انعقدت بمؤسسة التميمي في ذكرى كبير المهندسين التونسيين الذي غيبه الموت قبل ان تتمكن تلك المؤسسة من استضافته وأخذ شهادته عن مسيرته الغنية جدا. اطر تلك الندوة الوزير المدير الأسبق لمدرسة المهندسين التونسيين العليا والخبير الدولي المتميز أحمد رفيعة صحبة خبير سبر الآراء حسن الزرقوني، وجمع من الاطارات العليا المهمة في الهندسة والتدريس والعلم والخبرة. شارك جلهم تقريبا يومها في إثراء الذاكرة وتحدثوا عن خصال ذلك الرجل الاستثنائي الذي بقي بخدماته حيا في تونس وخارجها بإشعاعه وخبرته يُذكر. لقد كان من الأوائل الذين بنوا تونس المستقلة، من طرقات وجسور ومطارات وموانئ وتهيئة لمدن وقرى عدة ونشره للعلم والخبرة. لقد ساهم في تكوين وتخريج الدفعة الاولى من المهندسين التونسيين الذين تخرجوا من المدرسة العليا المهندسين المستحدثة، والتي أسسها وأدارها لسنين بكفاءة وهمة. لم اشارك يومها في الحديث لأني وجدت نفسي صغيرا أمام تلك القامات التي بنت تونس ومازالت تبني، ومنهم المدير الحالي للمدرسة العليا للمهندسين ومدير معهد «أسبري» وغيرهما من الاساتذة الكبار والمهندسين الأفذاذ في كل المجالات والاختصاصات التي دونهم لا يمكن لتونس أن تتقدم وتأخذ حظها في التاريخ والسمعة. قلت في نفسي وانا اتابع بانتباه هؤلاء العباقرة وقد اكتشفتهم يومها من جديد مستغربا من أن بلدا يزخر بمثلهم كيف لا ينهض ويبقى متخلفا يتخبط في الرداءة والعالم يتغير بسرعة… قد يكون العيب في أساليب الحكم وطرق التنفيذ التي حالت دون بلوغنا مرتبة أحسن، وكان علينا أن نفيق ونجازف لننهض. لقد تكلم الجميع عن مناقب المتحدث عنه كلها تقريبا، ولكنهم في تقديري لم يتكلموا عنه كإنسان. لقد عرفته شخصيا في مناسبات عدة ومواقف ميزته عن الآخرين الذين لهم مني الاكبار والتقدير والتحية. لكنهم كانوا في أغلبهم مثل الآلة تعمل بصمت وتتبع ما وقع برمجته مسبقا مثل القطار السريع الذي يطوي الطريق دون خروج من السكة. لذا قدرت ان أخصه بهذه الدردشة علني أكمل ما تم تناسيه يومها عفوا وهو في تقديري الاهم والاجدى: واتذكر أني التقيت به سنة 1965 لأول مرة لما كنت معتمدا بعين دراهم، عندما قرر الرئيس بورقيبة انشاء محطة استشفائية بمنطقة الحمام التي باتت تسمى الان بحمام بورقيبة. جاء قبل زيارة الرئيس بأشهر قليلة صحبة وزير الأشغال العمومية وقتها المرحوم أحمد نور الدين وذلك لتخطيط الطريق الذي سيربط بين مدينة عين دراهم والحمام عبر ببوش والتي تبعد ب15 كلم، مستعينا عليه بفريق الهندسة العسكرية بقيادة العقيد البشير حمزة. رأيت المتحدث عنه كيف يُقدم على ذلك العمل المعقد ويوفق في بضعة أشهر وبات بفضله ذلك الموقع مشهورا ويُزار بانتظام بعدما أقيم به فندقا يطيب المقام فيه للعلاج بالماء الطبيعي لمن يشكو من تعب في الحنجرة أو كسل في المفاصل. لقد تجدد لقائي بِه مرات أخرى واتذكر منها لمًا اقام بدار الثقافة بالقيروان معرضا للصور التي اخذها للحرمين الشريفين مكة والمدينة، ودعاني لافتتاحه وقبلت الدعوة. أدركت وقتها عمق إيمانه واختياره لتلك المواقع التي تمثل بالنسبة للاسلام والمسلمين عمقا وبما خصها الله من قداسة لدى المؤمنين لا تُدرك. سأل أحدهم يوم الندوة المتحدث عنها عن قصة بنائه لمسجد جامع في المدرسة العليا للمهندسين وبذلك الشكل المعماري الفريد وما اثارته تلك الفكرة من حساسية ونقد لدى من لم يدرك المغزى. أتصور أن المرحوم أدرك قبل غيره علاقة العلوم الصحيحة بالدين وهو الذي تناساه الاخرون حتى باتت بين المتخرجين من الجامعات التونسية قطيعة تُقلق. لقد رأيت فيه التمسك بجذوره واصالته ودينه بالرغم من العلم الغزير الذي تلقاه باوروبا والمعرفة التي خصه الله بها في دماغه المفتوح جدا. لقد أدرك عظمة الله في خلقه ولم يتأثر بالمادة التي شاع ذكرها في بلاد الغرب التي تلقى دروس الهندسة فيها بتفوق، ولكنه بقي دائما يشعر بأنه مازال صغيرا يتعلم. لذلك وجدته مختلفا عن أمثاله في التفكير والمبادرات الغريبة والعجيبة التي لم تفهم في وقته وتاكدت بعدها بما اصبح حقيقة تستعمل من اعلامية ورقمنة وتطور. وختاما لم يبق لي الا ان اجدد ترحمي عليه متوجها لله كي يرزق أهله وتلامذته واصدقائه الكثَّر الصبر ويجازيه عما قدمه خيرا. تونس في 14 جويلية 2020