ربما يكون من المبكر الحكم على تجربة الرئيس قيس سعيد في ممارسة السلطة بعد بضعة أشهر من حلوله بقصر قرطاج .. وقد يكون من العجلة تقييم الممارسة السياسية لساكن قرطاج و هو الذي لم تمر بعد سنة على انتخابه رئيسا للجمهورية وهي مدة لا تسمح عادة بإصدار تقييم موضوعي أو إصدار حكم دقيق على تجربة سياسية في ظروف صعبة من جميع نواحيها كالتي مرت بها البلاد وخاصة ما رافقها من أزمة صحية عالمية انتقلت إلينا جراء انتشار فيروس كورونا. ولكن رغم أن الوقت لا يزال مبكرا إلا أن الأحداث التي حصلت وجعلت رئيس الجمهورية يظهر كفاعل أول ورئيسي بطريقة تصرفاته ونوعية خطابه السياسي الذي تقدم به تجعل من الممكن إبداء بعض الملاحظات الأولية في انتظار استكمال التجربة السياسية وهي ملاحظات تركز على نوعية المعجم اللغوي الذي ينتقيه الرئيس ويستعمله في كل خروج إعلامي له فرضته أحداث مؤثرة جعلت منه خطابا لافتا لدى الكثير من المتتبعين وفرض عليهم الانتباه والتوقف عنده طويلا لمعرفة كيف يفكر الرئيس ؟ وكيف يتصرف ؟ وماذا يريد ؟ وما توجهاته ؟ فنوعية الخطاب ونوعية المعجم اللفظي المستعمل يعطي فكرة عن شخصية الفرد وطريقة تفكيره ذلك أن تحليل خطاب الفاعل السياسي هو نوع من سبر أغوار شخصية صاحبه وطريقة لمعرفة الصورة غير المعلنة في الفرد. سوف نكتفي في هذه الوقفة لتحليل الخطاب السياسي للرئيس قيس سعيد على محطتين لا غير ونكتفي بحدثين فقط وهما الخطاب الذي قدمه خلال ترأسه إجتماع المجلس الأعلى للجيوش والقيادات الأمنية الذي انعقد يوم 9 جوليلة الجاري والكلمة التي ألقاها بعد ظهر يوم الاثنين 13 جويلية الحالي بحضور نور الدين الطبوبي الأمين العام لاتحاد الشغل وإلياس الفخفاخ رئيس الحكومة على خلفية ما صدر من مخرجات مجلس الشورى لحركة النهضة التي فهم منها أن اتفاقا قد حصل بين رئيس مجلس نواب الشعب راشد الغنوشي ورئيس الجمهورية قيس سعيد على البدء في مشاورات لترتيب مرحلة ما بعد رئيس الحكومة إلياس الفخفاخ. في اجتماع المجلس الأعلى للجيوش والقيادات الأمنية تحدث قيس سعيد في أن البلاد تمر بظرف دقيق وتعيش مرحلة اعتبرها من أخطر ما تمر به في لحظاتها الراهنة وللتعبير عن هذا التخوف على الوضع الأمني العام استعمل رئيس الجمهورية لفظة " تفجير " حيث قال : إن هناك من يسعى إلى تفجير الدولة من الداخل وإن البلاد معرضة إلى خطر من الخارج ومن الداخل وأن الخطر الخارجي هو بنفس خطورة الخطر الداخلي .. وإن تفجير الدولة يتم من خلال ضرب مؤسساتها وتغييب سلطتها في العديد من المناطق بعد تفتيتها ومن بين المخاطر التي تهدد الدولة محاولة الزج بالمؤسسة العسكرية في الصراعات السياسية واستدراجها من أجل دخولها في مواجهة .. وربط هذا الكلام عن المخاطر التي تهدد البلاد بما حصل من اضطرابات واحتجاجات في الجنوب التونسي في منطقة " رمادة وتطاوين " على خلفية وفاة أحد الأفراد برصاص قوات الجيش بعد اقتحامه منطقة عسكرية . المشكل في هذا الخطاب الذي تقدم به رئيس الجمهورية هو في اختياره لمعجم لغوي غير متعود على استعماله و سماعه في خطاب رئيس دولة وهو يتحدث عما يحف الوضع الأمني بالبلاد من مخاطر فاستعمال كلمة " تفجير " وتفتيت الدولة " يعتبر في علم تخليل الخطاب السياسي استعمالا غير دقيق ونوع من الأخطاء الاتصالية التي لا تقدم صورة عن حقيقة الوضع وتعطي الانطباع للمتلقي بأن البلاد على شفى خطر داهم و حقيقي خاصة حينما نربط هذه المصطلحات بالحديث عن وجود تآمر خارجي وداخلي تتعرض له الدولة ويهدد البلاد و من دون أن يوضح من هي الأطراف التي تتآمر علينا مما يزيد الوضع غموضا وحيرة ويحدث نوعا من الإرباك في حياة الناس وسلوكهم . فالخطاب السياسي بهذه الطريقة وبهذا المعجم اللغوي الموظف لا يحقق فائدة كبيرة عن الفكرة والغاية التي ربما قصدها رئيس الجمهورية. المحطة الثانية هي الكلمة التي أدلى بها قيس سعيد خلال اللقاء الذي جمعه بالأمين العام للاتحاد العام التونسي للشغل ورئيس الحكومة إلياس الفخفاخ لتوضيح ما اعتبره افتراء عليه كان وراءه رئيس حركة النهضة حينما نقل إلى أعضاء مجلس شورى الحركة في اجتماعه للنظر في موضوع تضارب المصالح الذي يلاحق إلياس الفخفاخ من أن اتفاقا قد حصل بين الرجلين حول الشروع في الترتيب لمرحلة ما بعد الفخفاخ حيث استعمل رئيس الجمهورية معجما لغويا محيرا مثل استعمال لفظة " افتراء" في إشارة إلى تكذيب ما جاء على لسان الغنوشي من حصول توافق على الشروع في مفاوضات لتنحية الفخفاخ و كلمة " أضغاث أحلام " لقطع الطريق على كل من يراهن على رئيس الجمهورية للسير في طريق تغيير الحكومة من خارج الإطار الدستوري وآلياته لتغيير رئيس الحكومة وقال بأنه " لن يقبل بالابتزاز ولا بالمساومة ولا بالمناورة ولا بالعمل بقرارات الغرف المغلقة " من دون أن يوضح نوع الابتزاز والجهة التي تقف وراءه ومن دون أن يفصح عن طبيعة الغرف المغلقة التي تصدر القرارات للحكم. فهذا النوع من الخطاب السياسي الذي يستجلب معجما لغويا مشبعا بالمؤامرة والتحايل والغموض هو خطاب غير مجد ولا يفيد كثيرا في إجلاء المعنى والصورة خاصة وأنه في التقاليد والأعراف السياسية فإن السياسي لا يقول في خطابه كل شيء ويبتعد عن الأسلوب المباشر قدر الإمكان حتى يبقي على هامش للتحرك ولا يغلق الباب كاملا إذا تغيرت الأوضاع فالخطاب السياسي المتزن يحتوي على جانب معلن وآخر غير معلن وأن المعلن هو الحد الأدنى المطالب السياسي ليبقى غير المعلن و غير المعروف فحواه من خصوصية اللقاءات الثنائية خاصة وأن الحديث المباشر الذي ينفتح عن الكثير من المشاكل يؤدي الى فتح معارك وخصومات وانقسامات غير مربحة و هو وجه من أوجه الأخطاء التواصلية لبعض السياسيين الذين لا يولون كثير بال للمعجم اللغوي الذي يستعملونه .