قضية منتحل صفة مسؤول حكومي.. الاحتفاظ بمسؤول بمندوبية الفلاحة بالقصرين    مخاطر الاستخدام الخاطئ لسماعات الرأس والأذن    صفاقس تُكرّم إبنها الاعلامي المُتميّز إلياس الجراية    مدنين: انطلاق نشاط شركتين أهليتين في قطاع النسيج    سوريا... وجهاء الطائفة الدرزية في السويداء يصدرون بيانا يرفضون فيه التقسيم أو الانفصال أو الانسلاخ    في انتظار تقرير مصير بيتوني... الساحلي مديرا رياضيا ومستشارا فنيّا في الافريقي    رابطة الهواة لكرة القدم (المستوى 1) (الجولة 7 إيابا) قصور الساف وبوشمة يواصلان الهروب    عاجل/ "براكاج" لحافلة نقل مدرسي بهذه الولاية…ما القصة..؟    الاحتفاظ بمنتحل صفة مدير ديوان رئيس الحكومة في محاضر جديدة من أجل التحيل    الطبوبي في اليوم العالمي للشغالين : المفاوضات الاجتماعية حقّ ولا بدّ من الحوار    ملف الأسبوع.. تَجَنُّبوا الأسماءِ المَكروهةِ معانِيها .. اتّقوا الله في ذرّياتكم    خطبة الجمعة .. العمل عبادة في الإسلام    انهزم امام نيجيريا 0 1 : بداية متعثّرة لمنتخب الأواسط في ال«كان»    نبض الصحافة العربية والدولية... الطائفة الدرزية .. حصان طروادة الإسرائيلي لاحتلال سوريا    الوضع الثقافي بالحوض المنجمي يستحق الدعم السخي    أولا وأخيرا: أم القضايا    المسرحيون يودعون انور الشعافي    إدارة ترامب تبحث ترحيل مهاجرين إلى ليبيا ورواندا    المهدية: سجن شاب سكب البنزين على والدته وهدّد بحرقها    الجلسة العامة للبنك الوطني الفلاحي: القروض الفلاحية تمثل 2ر7 بالمائة من القروض الممنوحة للحرفاء    الكورتيزول: ماذا تعرف عن هرمون التوتر؟    انتخاب رئيس المجلس الوطني لهيئة الصيادلة رئيسا للاتحاد الافريقي للصيادلة    لماذا يصاب الشباب وغير المدخنين بسرطان الرئة؟    وزير الإقتصاد وكاتب الدولة البافاري للإقتصاد يستعرضان فرص تعزيز التعاون الثنائي    مصدر قضائي يكشف تفاصيل الإطاحة بمرتكب جريمة قتل الشاب عمر بمدينة أكودة    عاجل/ تفاصيل جديدة ومعطيات صادمة في قضية منتحل صفة مدير برئاسة الحكومة..هكذا تحيل على ضحاياه..    الطب الشرعي يكشف جريمة مروعة في مصر    تونس العاصمة وقفة لعدد من أنصار مسار 25 جويلية رفضا لأي تدخل أجنبي في تونس    ارتفاع طفيف في رقم معاملات الخطوط التونسية خلال الثلاثي الأول من 2025    بالأرقام/ ودائع حرفاء بنك تونس والامارات تسجل ارتفاعا ب33 بالمائة سنة 2024..(تقرير)    إقبال جماهيري كبير على معرض تونس الدولي للكتاب تزامنا مع عيد الشغل    وزير الصحة: لا يوجد نقص في الأدوية... بل هناك اضطراب في التوزيع    عاجل/ مجزرة جديدة للكيان الصهيوني في غزة..وهذه حصيلة الشهداء..    الطبوبي: انطلاق المفاوضات الاجتماعية في القطاع الخاص يوم 7 ماي    نحو توقيع اتفاقية شراكة بين تونس والصين في مجال الترجمة    يوم دراسي حول 'الموسيقى الاندلسية ... ذاكرة ثقافية وابداع' بمنتزه بئر بلحسن بأريانة    البطولة العربية لالعاب القوى للاكابر والكبريات : التونسية اسلام الكثيري تحرز برونزية مسابقة رمي الرمح    بطولة افريقيا للمصارعة بالمغرب: النخبة التونسية تختتم مسابقات صنفي الاصاغر والصغريات بحصيلة 15 ميدالية منها 3 ذهبيات    توقيع عدد من الإصدارات الشعرية الجديدة ضمن فعاليات معرض تونس الدولي للكتاب    عاجل/ المُقاومة اليمنية تستهدف مواقع إسرائيلية وحاملة طائرات أمريكية..    تونس العاصمة مسيرة للمطالبة بإطلاق سراح أحمد صواب    صادم: أسعار الأضاحي تلتهب..رئيس الغرفة الوطنية للقصابين يفجرها ويكشف..    التوقعات الجوية لهذا اليوم..طقس حار..    قيس سعيد: ''عدد من باعثي الشركات الأهلية يتمّ تعطيلهم عمدا''    محمد علي كمون ل"الشروق" : الجمهور على مع العرض الحدث في أواخر شهر جوان    توجيه تهمة 'إساءة استخدام السلطة' لرئيس كوريا الجنوبية السابق    منذ سنة 1950: شهر مارس 2025 يصنف ثاني شهر الأشد حرارة    كأس أمم إفريقيا لكرة القدم داخل القاعة للسيدات: المنتخب المغربي يحرز لقب النسخة الاولى بفوزه على نظيره التنزاني 3-2    وفاة أكبر معمرة في العالم عن عمر يناهز 116 عاما    منظمة الأغذية والزراعة تدعو دول شمال غرب إفريقيا إلى تعزيز المراقبة على الجراد الصحراوي    معز زغدان: أضاحي العيد متوفرة والأسعار ستكون مقبولة    زراعة الحبوب صابة قياسية منتظرة والفلاحون ينتظرون مزيدا من التشجيعات    مباراة برشلونة ضد الإنتر فى دورى أبطال أوروبا : التوقيت و القناة الناقلة    في تونس: بلاطو العظم ب 4 دينارات...شنوّا الحكاية؟    اتحاد الفلاحة: أضاحي العيد متوفرة ولن يتم اللجوء إلى التوريد    رابطة ابطال اوروبا : باريس سان جيرمان يتغلب على أرسنال بهدف دون رد في ذهاب نصف النهائي    سؤال إلى أصدقائي في هذا الفضاء : هل تعتقدون أني أحرث في البحر؟مصطفى عطيّة    أذكار المساء وفضائلها    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مصطفى الكيلاني يكتب لكم: عذاب الكائن وقُبْح الكِيان في "حرقة إلى الطليان" لصالح الحاجّة
نشر في الصريح يوم 17 - 07 - 2020


بَدِءا.
هي روايةٌ – متاهةٌ، روايةُ القُبح الكينونيّ، روايةُ النُقصان، روايةُ الرعب كُلّما تفاقم القُبح وأسفر عن قبح آخر أشدّ فظاعةً وإيذاءً، روايةُ الشرّ المتأصّل في الحياة ذاتها، وإنِ الحياة هي أبعد من أن تكون شرّا أو خيرا بالمعنى الما_قبليّ، وإنّما المعنى الحادث لكلّ منهما هو بفعل الإنسان وحال نُقصانه المتأصّل فيه، بطبيعته التّي تسمح بالخير عقلا مَحَبّةً حلما أمَلا عملا إبداعا فعلا مُخصبا، وبالشرّ أثَرَةً تمَلّكا استبدادا عُدْوانا كراهيّة انتقاما، رواية الاستبعاد يليه استبعادٌ إلى آخر نَفَس، وبين قُبح كِيان وآخر مَساعٍ كثيرة إلى التجميل بالأخلاق إمكانا لِسلوك، وبالدين أمَلا، وبالمحبّة أُفقا آخر ممكنا للكيان، روايةُ الابتداء ولا مُكتمل لها، روايةٌ كابوسيّة وإنْ وَلّدها حُلمُ تغييرٍ مّا في الوضع الشقيّ، رواية الثِقَل الذي لا يُحتمل، بل لا يُمكن أن يُحتمل، فلا خِفّة لكائن ولا تجنيح لِخيال إلّا في مواطن قليلة ضنينة، رواية ذكّرتْنا عند الانتهاء من قراءتها برواية "الضحك" للكاتب الأردُنّيّ غالب هَلَسَا، ذلك الضحك الهستيريّ حَدّ البُكاء مُقابل بُكاء هذه الرواية الهستيريّ أيضا، ولكنْ حَدّ الضحك، وب "الطريق" أيضا للروائيّ الأمريكيّ كورناك ماكْ كارتي (Cornac Mc Carthy)، تلك الرواية الموغلة في متاهة اللّيل، في تلاحُق مشاهد رُعْبه إلى آخر لحظة في مسارّ المَرْويّ، ثمّ حِلّ أو لا أفُق لحِلّ في الأخير.
1- الكتابة بالذاكرة أوّلا و بالمخيال ثانيا.
ف "حرقة إلى لطليان" لصالح الحاجّة (*) هي رواية الواقع ورواية التخييل معا، بما يُؤالف ويُفارق بين المحكيّ والواقع والتاريخ والبعض القليل أو الكثير، رُبّما، من السَيْر_ذاتيّ، كالّذي أحال إليه وُجود الشخصيّة الساردة والمسرودة الأمّ من وقائع مَعيشة مُبتدؤُها أرض الجريد التّونسيّ الّتي دفعت بالمئات، بل الآلاف، من أبنائها وبناتها الفقراء إلى النزوح أو الهجرة اضطرارا لا اختيارا، ولوْلا قراءتنا ل "عشرون تمرة جريديّة" (2) لما أمكننا التوصّل بيُسر إلى معرفة الخيط الرابط السيْر_ذاتيّ بين العَمَليْن، إذْ في المشهد الثاني والعشرين من "حرقة إلى الطليان" ذكر حانوت الكيلاني كركارة بائع النقانق الذي كان يجمع يوميّا السقاطة من "الباطوار" ويأتي بها لِيُحوّلها إلى مرقاز..."، وذلك ما يتآلف سردا واقعيّا، في تقديرنا، مع ما وَرَدَ في إحدى "التمرات" المُخصّصة للاسم المذكور وما انتهى إليه من سجن بسَبب الغشّ وذبحه للقِطط السائبة واستخدام لُحومها في صناعة نقانِقه وبيْعها للعُموم. كما في "حرقة إلى الطليان" عِدّة إشارات إلى طفولة السارد الأولى في "توزر" وحال أمّه الضعيفة المستضعَفة المهزوزة وُجودا من الداخل المُرتعِبة وبعض أقوال "عمّ محمّد الحجّام" ونصائحه، وإلماحات أخرى إلى بعض العلاقات الاجتماعيّة الظاهرة والخفيّة بما يُرَجّح أنّ السارد والمسرود في نصّ الرواية هو واحِد من آلاف "الجريديّة" (سُكّان الجريد التونسيّ) النازحين والمهاجرين، وحكايتُه هذه تختصر آلاف حكاياتهم المتشابهة بالمسارّ والمآل ذاتيْهما: وإنْ عاد بنا حَدَث "الحرقة" في الرواية إلى ستّينات القرن الماضي فالدافع الأوّل إليهما هو ذاته اليومَ مُحَدَّدا في المقام الأوّل بالفقر والقهر السياسيّ سابقا، وبحُلم المُغامَرة وانحباس الأُفق والسعي إلى حياة الرفاه، كالّذي يحدث للشُبّان التّونسيّين في هذه الأعوام الأخيرة، وغيرهم من بلدان الجنوب.
2- إتقان مُمارسة لعبة الكتابة الأدبيّة سَرْدا.
واحد وخمسون مقطعا أو مشهدا في مرويّ "حرقة إلى الطليان" مَثّلتْ نسْجا سرديّا مُتقنا حَدّ المشهد الثالث والثلاثين، عَقِبه تسريعٌ مُباغِت في إتمام المشاهد – المقاطع الأخرى إلى آخر النصّ. فكأنّه الملل أو تماهي الذات الكاتِبة مع آلة الرعب الموصوفة أو وَجَع الذاكرة النازفة عَجَّل قليلا في الإنهاء، كوجْه هارب من مرآته الجُوانيّة أو كصورة مُرعِبة ضاغطة عبر صقيل الزجاج المُعْتَم على الروح المثقلة بأوجاعها السالفة والحادِثة. وما الإنهاء شبه المتسرّع إلاّ فعل خلاص من جحيم وضع الكتابة الّذي أوْغل في التماهي اللاّعِب مع الموصوف الروائيّ إلى أن بلغ أشدّه بالوجع الممِضّ الّذي ما عاد بإمكان الذات الكاتبة الاستمرار في احتماله.
إنّ للنصّ، هذا النصّ المقروء، جماليّتَه الأدبيّة الخاصّة الّتي جسّدت مدى اقتدار صالح الحاجّة على إتقان فنّ السرد وممارسة لعبة الكِتابة بعد مُداوَمة طويلة عليها وحِذقها بما يُبدي سلاستها وانسيابها الجاذبيْن وتملّك روح السرد بالاعتياد على السماع (حكاية الأمّ والجدّة وتداوُل الأخبار في الأمْكنة العموميّة) وقراءة الكثير من السُرود الأدبيّة مُنْذ الطفولة، وخوض تجارب اجتماعيّة وسياسيّة ومِهنيّة إعلاميّة كثيرة... كما لهذا النصّ قيمة تاريخيّة كبرى، فهو يكشف عن فترة مفصليّة في تاريخ تونس المعاصر، بما مَثّله الصراع البورقيبيّ - اليوسفيّ من تداعيات وقائع مُؤلمة عنيفة دمَويّة صادمة قسّمت التّونسيّين إلى حِزبيْن بعد الحزب الواحد الجامع وأعادتْهم إلى مُربّع الخلاف الأوّل القائم بين حزب قديم (بِزعامة عبد العزيز الثعالبيّ) وحزب جديد في مطلع ثلاثينات القرن الماضي (بزعامة الحبيب بورقيبة وعَدَد من رفاقه، كصالح بن يوسف).
وإذَا هذا النصّ الروائيّ الشبه سَيْر_ذاتيّ يُعيد بالالتفات كتابة حِقبة تاريخيّة استثنائيّة مُؤثّرة في تونس المعاصِرة إلى اليوم، وذلك بالمتوهِّج سردا وتعجيبا حِكائيّا، وبالمتعدّد من الشهادات والشهود على ما كان، كما يذهب إلى التخفّف من بعض الكراهيّات والأحقاد والتحرّر من بعض مَطبّات التأوّل المُغرض الإيديولوجيّ...، وللنصّ، هذا النصّ، أيضا قيمة أنتروبولوجيّة، إذْ يُساعد بالكثير ممّا ورد من أحداث ومواقف على الكشف عن أدقّ مُعَرّفات الشخصيّة التونسيّة العميقة المِزاجيّة المتقلّبة المتناظِمة حينا المتفارقة الملتبِسة حينا آخر بالمتعدّد المرجعيّ ذهنا وسُلوكا.
3- رواية ما بين الوَهَن والقُوّة.
وإلى ما سبق نتبيّن أنّها رواية الوهن والقُوّة معا، ذلك أنّه لا وهنَ في واقع التغالب إلاّ بالقوّة، ولا قُوّة إلاّ بالوهن، وبينهما حَدّ رقيق شفّاف ينقلنا بلا سابق إعلام من حال إلى أخرى مُغايرة. كما هي رواية الساديّة والمازوشيّة تتمازجان أحيانا كثيرة، ورواية الواقع والفانتازيا أو الواقع حَدَّ الفانتازيا. وإذا الأنا في "حرقة إلى الطليان" لصالح الحاجّة سارد ومسرود في الآن ذاته بما اصطلح عليه علماء السرد بالحكاية المتماثِلة حيث لا تبعيد بين مَن يَسرد وما يُسرد: سمة غالبة على السرد الروائيّ والأقصوصيّ والسيْر_ذاتيّ الحديث بعد أن اعتاد السرد على التبعيد تخييلا وتعجيبا بين السارد والمسرود عبر العصور.
"قبل أن تقرأ" هو قوْل ل محمّد الدّسوقي صَدَّرَ به الكاتب نصّه، اختصر بكثافةٍ حال السارد والمسرود معا، فأدْخلنا مُباشرة إلى عالم غريب: بُؤْس وبلاء وتورُّط في الحياة وجهل للنفس، ورُبّما جهل مُتبادل بين الإنّيّ والغيريّ أو تجاهُل، وتفرُّد حَدّ اليُتم الأبديّ تمثيلا ب "نجم وحيد... يُرسِل بريقه عبر ملايين الأميال...، ليُبدّد وحشة ليل مّا، رغم أنّه احترق منذ زمن طويل (ص5).
فمنذ أوّل مشاهد "حرقة إلى الطليان" نستقبل زمنا سرديّا سريع الحدوث بأحداث كثيرة مُباغتة متداخِلة أحيانا، حتّى لكأنّ الموصوف السرديّ واقع حُلميّ أوُ حُلم واقعيّ استحال إلى كوابيس مُتلاحقة في عالم تسوده الفوضى والصدفة والدمامة المُجمّلة، ولا قِيم له إلاّ في المال وبه، وبالاستهلاك والامتلاك حَدَّ التملّك واستبعاد الجسد وتسليع مختلف أحاسيسه ورغباته، وإنْ عنّتْ للقارئ إشراقات قليلة بالأمّ والراهبَة والتجنيح في أعالي السماء بفيْض العشق الصوفيّ كُلّما بلغت أزمة الوجود أشدّها.
4- الاندفاع فرارا اضطراريّا من متاهة إلى أُخرى.
الفرارُ من جحيم الوضع هو الحدث الرئيس في "حرقة إلى الطليان". وهذا القرار لا يُحقّق في الأثناء والأخير أمَل النجاة، ذلك أنّ المنشود شِبه مفقود في عالم موحِش السيادةُ فيه هي للعبث، للصدفة، للكارثة، للعُنف القاتل، للهلاك أخيرا.
فمثّلتْ الهجرة عند بَدْء المَرْويّ أملا سُرعان ما تلاشى بما تَعَرّض له السارد في "بالرمو" من تعنيف "صعاليك عَرَب" له، وما تبع ذلك من مُفاجأة اكتشاف العموم لشَبَه السارد بِروبرتو مارتيني، وهو "مُجرم ولِصّ خطير وقائد عصابة أقوى من عصابات المافيا" (ص40).
وبهذا الوصْم المُفاجئ يُوغل المرويّ في متاهةِ حياةٍ غريبة، داخل مطعم وملهى لحُرفاء مِثليّين يمتلكه ألبرتو كارتوزو القزم الدميم مُروّج المُخدّرات والمستثمر في تحقيق اللّذائذ الغريبة للزُوّار الشُذّاد المازوشيّين الّذين وجدوا في تنكيل السارد، شبيه روبرتو مارتيني، بِهِمْ ما يُدخل على أنفسهم البهجة، مع ما يشربونه من خمور وما يستهلكونه من مُخدّرات. وإذا ليل المتاهة يذهب بعيدا في الوحشة والانحباس كُلّما أوغل السارد فيه ابتداءً من وضعه الاجتماعيّ الصعب في مسقط رأسه وحال أمّه الضعيفة المستضعَفة وهجرته إلى "بالرمو" واعتداء المنحرفين الشبّان العَرَب عليه ومعرفته ل "فيفيانو" أو "فيفي"، وقد ظنّها في البدء امرأة، وهي اسم مستعار لرجُل مُخنّث، وجَلّ مَن في المحلّ الّذي اصطحبه إليه رجالٌ مُخنّثون: "وكان أكثر ما لفت انتباهي هو غرابة الملابس الّتي كان يرتديها الجميع مِن نساء ومن جنس لم أعرف هل هو مِن الذكور أم مِن الإناث!!! (ص55). فمثّلتْ هويّة الكائن الوُجوديّة إشكالا تَعمّق التباسه واشتدّ بفظاعة الوجود ذاته، كما مَثّلتْ هويّة الكائن الفرد الجنسيّة إشكالا بالمِثليّة، ولا صحّةَ نفسيّة أيضا، كالبادي في الانتقال العاجل من الساديّة إلى المازوشيّة، ومن المازوشيّة إلى الساديّة، وكالماثل في تقلّبات شخصيّات المطعم – الملهى، وفي شخصيّة ألبرتو كارتوزو، على وجه الخصوص.
هي حال من الاستيهام المَرَضيّ تملّكت زُوّار الملهى كما تملّكت مالكهُ القَزم القبيح المُخنّث، ولا ترضيةَ ولا إرواء في الحين لهذه الحال إلاّ بالعنف يُسلّطه السارد شبيه روبرتو مارتيني صفعا ولكما وإهانةً لفظيّة لأشخاص تتملّكهم فجأةً هيستيريا التصاغُر، وهُم الأقوياء الأشدّاء المنتفّذين في حياتِهم العامّة.
وتزداد المتاهة ضيقا والتواءً ووحشةً بقرار ألبرتو كارتوزو تملُّك السارد للاستفادة من خَدَماته الغريبة الّتي يُؤدّيها للحُرفاء الشُذّاذ. لذا قرّر السارد الفرار منه ليعود به رجاله إليه، وهو في أسوَأِ حال بعد تعنيفه الشديد، ويُتّهم في مكتب القزم بالسرقة ظُلما وفي حضور شرطيّ. وكُلّما انقضى رعب ظهر رعب آخر أشدّ، كسائق التاكسي الّذي أوْصله إلى بيت "الإمبراطورة" العجوز الثريّة المتصابِية وهمّ بقتله وفي ظنّه أنّه روبرتو مارتيني مُغتصِب زوجته، ولولا الاستظهار بجواز السَفر لأطلق عليه النار، وما عقب ذلك من موت العجوز المفاجئ على مأدبة الطعام، واستمرار وضع أسْره داخل عالم ألبرتو كارتوزو الموبوء، ثمّ الإقدام على فرار آخر بمساعدة سائق التاكسي الّذي أضحى صديقا له.
5- عود بالذاكرة السرديّة إلى تونس: متاهة أخرى ما_قبْليّة.
يتواصل المرويّ في ضيْعة بإحدى ضواحي "بالِرْمو" لينفتح في الأثناء على ذكريات الصراع البورقيبيّ_اليوسفيّ، وفي ذلك وجه آخر للمتاهة والدمامة والرعب المستبِدّ بالكائن والكيان. وإنِ اختلف ما في المكان مِن أشخاص وأفعال فالعالم واحد والدمامة هي ذاتُها تُؤثّث المشهد الكَيْنُونيّ العامّ بخيبة الأمل الجماعيّ من دولة الاستقلال وسيادة استبداد الزعيم الأوْحد بعد غدره بِجُلّ رفاقه من الزعماء الآخرين وتحويل الوطن عند تولّيه الحكم، رغم عديد الانجازات الاجتماعيّة، إلى سجن كبير بمُصادرة الحُرّيات الفرديّة والتنكيل بمُعارضيه، كالّذي حدث سردا روائيّا ل "إبراهيم العيّاط" شُهر "كرطوشة"، أستاذ الفلسفة المتعاطِف مع صالح بن يوسف، وقد هاجر هو الآخر إلى "بالِرْمو" فرارا من جحيم الوضعيّة ليشتغل عاملا بضيْعة امرأة إيطاليّة.
فينفتح المرويّ بشهادة "إبراهيم العيّاط" على مرحلة عصيبة مُؤْلمة في تاريخ تونس المعاصر، بما تعرّض له الراوي وغيره من اليوسفيّين من تنكيل وسجن واغتيال، وأشهرها ما عُرف بفظاعات "صبّاط الظلام" وأقبية التعذيب السريّة...
كذا المرويّ في "حرقة إلى الطليان" لصالح الحاجّة هو قُبح الكيان عامَّةً وإنِ اختلفت الأمكنة، إذْ لا اختلاف بين جلاّدي الاستبداد الحاكم في تونس وبين ألبرتو ماركوزو القزم النذل وغيره من قادة عصابة المافيا وتُجّار المخدّرات والجنس، كما خيانة الإنسان لِأخيه الإنسان واستعباد جسده واستباحة عرضه وكرامته وفكره فهي فاعلة سلبا في كُلّ المواطن، وقمْع الكائن وتدجين الكيان ماثلان هنا وهناك، بالتفقير والقمع السياسيّ في تونس والقمع الاستهلاكيّ والتمييز العُنصريّ في المجتمعات الغربيّة، وإيطاليا تحديدا.
فجحيمُ الكيان هو الجحيم ذاتُه باختلاف الأوقات والأوضاع. وبشاعة نُقصان الكائن تختلف مَشاهدها لتظلّ واحدة مُتكرّرة في المُحصّل الأخير، بما باح به إبراهيم العيّاط من وقائع أليمة حدثت له، كخيانة الزميل والزوجة له ووشاية الجار "عُثمان" المُغرضة به، وانتقامه من الثلاثة مستعينا على زميله الغادر ب "حمّودة الكسّار" وإقدامه بنفسه على حرق زوجته وعشيقها الجار الواشي قبل وقت وجيز من مغادرة البلد بالباخرة إلى "بالرْمو".
وحكاية "مرزوق" البائع المتجوّل هي الأخرى صادمة، وقد حرص "إبراهيم العيّاط" على روايتها لسارد "حرقة إلى الطليان" بالكثير من التفاصيل واصفا ما تعرّض له هذا الرجل من الأذى بنقْله زجرا إلى مستشفى الأمراض العقليّة بقرار عقابيّ اعتاد النظام الحاكم في تونس على اتّخاذه أحيانا ضدّ مُعارضيه.
6- من قبيل الخاتمة أو عَوْد على بَدْء.
هي رواية الوجع، إذن، الجرح النازف، الذاكرة الدمويّة بَدْءا وأخيرا وفي الأثناء، وهي رواية الغدر المُتكرّر، كالحادث انتهاءً بوشاية "مُوحا" المهاجر التّونسيّ بالسارد لدى ألبرتو كروزو وإعلامه بمجيئه.
وإذا "حرقة إلى الطليان" لِصالح الحاجّة نصّ سرديّ جامع بين الرواية وما يقترب في بعض المَواطِن من السيرة الذاتيّة، وهو إلى ذلك يُشير إلى مرحلة في تاريخ تونس شهدتْ، كما أسلفْنا، الخلاف السياسيّ البروقيبيّ_اليوسفيّ. وقد حرص المسرود عامَّةً على انتهاج سبيل الموضوعيّة ببيان بعض خلفيّات هذا الصراع المفتَعلة، وذلك لتركيز سياسة الحزب الواحد والزعيم الأوحد والاستعداد لبدء المرحلة الثانية من تأسيس الدولة الوطنيّة. كما يُلمِح إلى بعض الموَاطن المُعتمة في بناء الشخصيّة التونسيّة بما يستلزم البحث المتأنّي العميق في العَوَامِل التاريخيّة لنشأتها وتكوُّنها ومعرفة خصوصيّتها ذهنا وسُلوكا. ولهذا المسرود أيضا ما يُساعِد على فهم ظاهرة هِجرة التّونسيّ إلى أُوروبّا مُنذ سِتّينات القرن الماضي إلى اليوم، وإِنِ اختلفت الوقائع في الظاهر لِتظلّ الأسباب الكبرى هي ذاتُها في المحصّل الأخير: فقْر وبِطالة وحُرّيّة ومُصادرة إنْ تفكيرا أو تعبيرا في الماضي، وفقر وبطالة وانسداد أُفُق في الحاضر. والأهمّ دلالةً وتدلالا في مسرود هذا النصّ المقروء هو حال الكائن ووضع الكِيان بما يُجَاوِز مجتمعه الأصليّ إلى واقع الحياة الإنسانيّة عامّةً، إلى طبيعة الإنسان ذاتِها نُقصانا، تَعَطّلَ إرادةٍ، استحالَةَ أمل، انقطاعَ حُلْم...
--------------------
صالح الحاجّة/ "حرقة إلى الطليان" تونس: دار ديار للنشر والتوزيع، 2019.
صالح الحاجّة/"20تمرة جريديّة" تونس:دار ديار للنشر والتوزيع،2020.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.