السينما التونسية حاضرة بفيلمين في الدورة التأسيسية للمهرجان الدولي للفيلم القصير بمدينة تيميمون الجزائرية    بطولة انقلترا: مانشستر سيتي يكتسح ليفربول بثلاثية نظيفة    الصندوق العالمي للطبيعة بشمال إفريقيا يفتح باب التسجيل للمشاركة في النسخة الثانية من برنامج "تبنّى شاطئاً"    مدير "بي بي سي" يقدم استقالته على خلفية فضيحة تزوير خطاب ترامب    هل نقترب من كسر حاجز الزمن؟ العلم يكتشف طريقاً لإبطاء الشيخوخة    بنزرت ...مؤثرون وناشطون وروّاد أعمال .. وفد سياحي متعدّد الجنسيات... في بنزرت    صفاقس : نحو منع مرور الشاحنات الثقيلة بالمنطقة البلدية    نبض الصحافة العربية والدولية ... مخطّط خبيث لاستهداف الجزائر    "التكوين في ميكانيك السيارات الكهربائية والهجينة، التحديات والآفاق" موضوع ندوة إقليمية بمركز التكوين والتدريب المهني بالوردانين    حجز أكثر من 14 طنًا من المواد الغذائية الفاسدة خلال الأسبوع الأول من نوفمبر    ساحة العملة بالعاصمة .. بؤرة للإهمال والتلوث ... وملاذ للمهمشين    توزر: العمل الفلاحي في الواحات.. مخاطر بالجملة في ظلّ غياب وسائل الحماية ومواصلة الاعتماد على العمل اليدوي    بساحة برشلونة بالعاصمة...يوم مفتوح للتقصّي عن مرض السكري    أندا تمويل توفر قروضا فلاحية بقيمة 40 مليون دينار لتمويل مشاريع فلاحية    العاب التضامن الاسلامي (الرياض 2025): التونسية اريج عقاب تحرز برونزية منافسات الجيدو    أيام قرطاج المسرحية 2025: تنظيم منتدى مسرحي دولي لمناقشة "الفنان المسرحي: زمنه وأعماله"    قابس: حريق بمنزل يودي بحياة امرأة    الليلة: أمطار متفرقة ورعود بأقصى الشمال الغربي والسواحل الشمالية    كاس العالم لاقل من 17 سنة:المنتخب المغربي يحقق أكبر انتصار في تاريخ المسابقة    الانتدابات فى قطاع الصحة لن تمكن من تجاوز اشكالية نقص مهنيي الصحة بتونس ويجب توفر استراتيجية واضحة للقطاع (امين عام التنسيقية الوطنية لاطارات واعوان الصحة)    رئيس الجمهورية: "ستكون تونس في كل شبر منها خضراء من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب"    الجولة 14 من الرابطة الأولى: الترجي يحافظ على الصدارة والهزيمة الأولى للبقلاوة    نهاية دربي العاصمة بالتعادل السلبي    شنيا يصير كان توقفت عن ''الترميش'' لدقيقة؟    عاجل: دولة أوروبية تعلن حظر استخدام وسائل التواصل الاجتماعي على الأطفال دون 15 عامًا    احباط تهريب مبلغ من العملة الاجنبية يعادل 3 ملايين دينار..#خبر_عاجل    عاجل : فرنسا تُعلّق منصة ''شي إن''    رحيل رائد ''الإعجاز العلمي'' في القرآن الشيخ زغلول النجار    جندوبة: الحماية المدنية تصدر بلاغا تحذيريا بسبب التقلّبات المناخية    تونس ستطلق مشروع''الحزام الأخضر..شنيا هو؟''    حريق بحافلة تقل مشجعي النادي الإفريقي قبل الدربي    احتفاءً بالعيد الوطني للشجرة: حملة وطنية للتشجير وبرمجة غراسة 8 ملايين شتلة    الديربي التونسي اليوم: البث المباشر على هذه القنوات    أعلاها 60 مم: كميات الأمطار المسجلة خلال ال24 ساعة الماضية    المنتخب التونسي تحت 23 عاما يلاقي وديا السعودية وقطر والامارات من 12 الى 18 نوفمبر الجاري    عاجل: النادي الافريقي يصدر هذا البلاغ قبل الدربي بسويعات    ظافر العابدين في الشارقة للكتاب: يجب أن نحس بالآخرين وأن نكتب حكايات قادرة على تجاوز المحلية والظرفية لتحلق عاليا في أقصى بلدان العالم    أول تعليق من القاهرة بعد اختطاف 3 مصريين في مالي    عفاف الهمامي: كبار السن الذين يحافظون بانتظام على التعلمات يكتسبون قدرات ادراكية على المدى الطويل تقيهم من أمراض الخرف والزهايمر    هام: مرض خطير يصيب القطط...ما يجب معرفته للحفاظ على صحة صغار القطط    تحذير من تسونامي في اليابان بعد زلزال بقوة 6.7 درجة    عاجل-أمريكا: رفض منح ال Visaللأشخاص الذين يعانون من هذه الأمراض    طقس اليوم: أمطار غزيرة ببعض المناطق مع تساقط البرد    الشرع في واشنطن.. أول زيارة لرئيس سوري منذ 1946    المسرح الوطني يحصد أغلب جوائز المهرجان الوطني للمسرح التونسي    رأس جدير: إحباط تهريب عملة أجنبية بقيمة تفوق 3 ملايين دينار    أولا وأخيرا .. قصة الهدهد والبقر    تقرير البنك المركزي: تطور القروض البنكية بنسق اقل من نمو النشاط الاقتصادي    منوبة: الكشف عن مسلخ عشوائي بالمرناقية وحجز أكثر من 650 كلغ من الدجاج المذبوح    هذه نسبة التضخم المتوقع بلوغها لكامل سنة 2026..    شنيا حكاية فاتورة معجنات في إزمير الي سومها تجاوز ال7 آلاف ليرة؟    بسمة الهمامي: "عاملات النظافة ينظفن منازل بعض النواب... وعيب اللي قاعد يصير"    الطقس اليوم..أمطار مؤقتا رعدية بهذه المناطق..#خبر_عاجل    تونس: ارتفاع ميزانية وزارة الثقافة...علاش؟    تعرف قدّاش عندنا من مكتبة عمومية في تونس؟    من أعطي حظه من الرفق فقد أعطي حظّه من الخير    خطبة الجمعة ... مكانة الشجرة في الإسلام الشجرة الطيبة... كالكلمة الطيبة    مصر.. فتوى بعد اعتداء فرد أمن سعودي على معتمر مصري في المسجد الحرام    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مصطفى الكيلاني يكتب لكم: عذاب الكائن وقُبْح الكِيان في "حرقة إلى الطليان" لصالح الحاجّة
نشر في الصريح يوم 17 - 07 - 2020


بَدِءا.
هي روايةٌ – متاهةٌ، روايةُ القُبح الكينونيّ، روايةُ النُقصان، روايةُ الرعب كُلّما تفاقم القُبح وأسفر عن قبح آخر أشدّ فظاعةً وإيذاءً، روايةُ الشرّ المتأصّل في الحياة ذاتها، وإنِ الحياة هي أبعد من أن تكون شرّا أو خيرا بالمعنى الما_قبليّ، وإنّما المعنى الحادث لكلّ منهما هو بفعل الإنسان وحال نُقصانه المتأصّل فيه، بطبيعته التّي تسمح بالخير عقلا مَحَبّةً حلما أمَلا عملا إبداعا فعلا مُخصبا، وبالشرّ أثَرَةً تمَلّكا استبدادا عُدْوانا كراهيّة انتقاما، رواية الاستبعاد يليه استبعادٌ إلى آخر نَفَس، وبين قُبح كِيان وآخر مَساعٍ كثيرة إلى التجميل بالأخلاق إمكانا لِسلوك، وبالدين أمَلا، وبالمحبّة أُفقا آخر ممكنا للكيان، روايةُ الابتداء ولا مُكتمل لها، روايةٌ كابوسيّة وإنْ وَلّدها حُلمُ تغييرٍ مّا في الوضع الشقيّ، رواية الثِقَل الذي لا يُحتمل، بل لا يُمكن أن يُحتمل، فلا خِفّة لكائن ولا تجنيح لِخيال إلّا في مواطن قليلة ضنينة، رواية ذكّرتْنا عند الانتهاء من قراءتها برواية "الضحك" للكاتب الأردُنّيّ غالب هَلَسَا، ذلك الضحك الهستيريّ حَدّ البُكاء مُقابل بُكاء هذه الرواية الهستيريّ أيضا، ولكنْ حَدّ الضحك، وب "الطريق" أيضا للروائيّ الأمريكيّ كورناك ماكْ كارتي (Cornac Mc Carthy)، تلك الرواية الموغلة في متاهة اللّيل، في تلاحُق مشاهد رُعْبه إلى آخر لحظة في مسارّ المَرْويّ، ثمّ حِلّ أو لا أفُق لحِلّ في الأخير.
1- الكتابة بالذاكرة أوّلا و بالمخيال ثانيا.
ف "حرقة إلى لطليان" لصالح الحاجّة (*) هي رواية الواقع ورواية التخييل معا، بما يُؤالف ويُفارق بين المحكيّ والواقع والتاريخ والبعض القليل أو الكثير، رُبّما، من السَيْر_ذاتيّ، كالّذي أحال إليه وُجود الشخصيّة الساردة والمسرودة الأمّ من وقائع مَعيشة مُبتدؤُها أرض الجريد التّونسيّ الّتي دفعت بالمئات، بل الآلاف، من أبنائها وبناتها الفقراء إلى النزوح أو الهجرة اضطرارا لا اختيارا، ولوْلا قراءتنا ل "عشرون تمرة جريديّة" (2) لما أمكننا التوصّل بيُسر إلى معرفة الخيط الرابط السيْر_ذاتيّ بين العَمَليْن، إذْ في المشهد الثاني والعشرين من "حرقة إلى الطليان" ذكر حانوت الكيلاني كركارة بائع النقانق الذي كان يجمع يوميّا السقاطة من "الباطوار" ويأتي بها لِيُحوّلها إلى مرقاز..."، وذلك ما يتآلف سردا واقعيّا، في تقديرنا، مع ما وَرَدَ في إحدى "التمرات" المُخصّصة للاسم المذكور وما انتهى إليه من سجن بسَبب الغشّ وذبحه للقِطط السائبة واستخدام لُحومها في صناعة نقانِقه وبيْعها للعُموم. كما في "حرقة إلى الطليان" عِدّة إشارات إلى طفولة السارد الأولى في "توزر" وحال أمّه الضعيفة المستضعَفة المهزوزة وُجودا من الداخل المُرتعِبة وبعض أقوال "عمّ محمّد الحجّام" ونصائحه، وإلماحات أخرى إلى بعض العلاقات الاجتماعيّة الظاهرة والخفيّة بما يُرَجّح أنّ السارد والمسرود في نصّ الرواية هو واحِد من آلاف "الجريديّة" (سُكّان الجريد التونسيّ) النازحين والمهاجرين، وحكايتُه هذه تختصر آلاف حكاياتهم المتشابهة بالمسارّ والمآل ذاتيْهما: وإنْ عاد بنا حَدَث "الحرقة" في الرواية إلى ستّينات القرن الماضي فالدافع الأوّل إليهما هو ذاته اليومَ مُحَدَّدا في المقام الأوّل بالفقر والقهر السياسيّ سابقا، وبحُلم المُغامَرة وانحباس الأُفق والسعي إلى حياة الرفاه، كالّذي يحدث للشُبّان التّونسيّين في هذه الأعوام الأخيرة، وغيرهم من بلدان الجنوب.
2- إتقان مُمارسة لعبة الكتابة الأدبيّة سَرْدا.
واحد وخمسون مقطعا أو مشهدا في مرويّ "حرقة إلى الطليان" مَثّلتْ نسْجا سرديّا مُتقنا حَدّ المشهد الثالث والثلاثين، عَقِبه تسريعٌ مُباغِت في إتمام المشاهد – المقاطع الأخرى إلى آخر النصّ. فكأنّه الملل أو تماهي الذات الكاتِبة مع آلة الرعب الموصوفة أو وَجَع الذاكرة النازفة عَجَّل قليلا في الإنهاء، كوجْه هارب من مرآته الجُوانيّة أو كصورة مُرعِبة ضاغطة عبر صقيل الزجاج المُعْتَم على الروح المثقلة بأوجاعها السالفة والحادِثة. وما الإنهاء شبه المتسرّع إلاّ فعل خلاص من جحيم وضع الكتابة الّذي أوْغل في التماهي اللاّعِب مع الموصوف الروائيّ إلى أن بلغ أشدّه بالوجع الممِضّ الّذي ما عاد بإمكان الذات الكاتبة الاستمرار في احتماله.
إنّ للنصّ، هذا النصّ المقروء، جماليّتَه الأدبيّة الخاصّة الّتي جسّدت مدى اقتدار صالح الحاجّة على إتقان فنّ السرد وممارسة لعبة الكِتابة بعد مُداوَمة طويلة عليها وحِذقها بما يُبدي سلاستها وانسيابها الجاذبيْن وتملّك روح السرد بالاعتياد على السماع (حكاية الأمّ والجدّة وتداوُل الأخبار في الأمْكنة العموميّة) وقراءة الكثير من السُرود الأدبيّة مُنْذ الطفولة، وخوض تجارب اجتماعيّة وسياسيّة ومِهنيّة إعلاميّة كثيرة... كما لهذا النصّ قيمة تاريخيّة كبرى، فهو يكشف عن فترة مفصليّة في تاريخ تونس المعاصر، بما مَثّله الصراع البورقيبيّ - اليوسفيّ من تداعيات وقائع مُؤلمة عنيفة دمَويّة صادمة قسّمت التّونسيّين إلى حِزبيْن بعد الحزب الواحد الجامع وأعادتْهم إلى مُربّع الخلاف الأوّل القائم بين حزب قديم (بِزعامة عبد العزيز الثعالبيّ) وحزب جديد في مطلع ثلاثينات القرن الماضي (بزعامة الحبيب بورقيبة وعَدَد من رفاقه، كصالح بن يوسف).
وإذَا هذا النصّ الروائيّ الشبه سَيْر_ذاتيّ يُعيد بالالتفات كتابة حِقبة تاريخيّة استثنائيّة مُؤثّرة في تونس المعاصِرة إلى اليوم، وذلك بالمتوهِّج سردا وتعجيبا حِكائيّا، وبالمتعدّد من الشهادات والشهود على ما كان، كما يذهب إلى التخفّف من بعض الكراهيّات والأحقاد والتحرّر من بعض مَطبّات التأوّل المُغرض الإيديولوجيّ...، وللنصّ، هذا النصّ، أيضا قيمة أنتروبولوجيّة، إذْ يُساعد بالكثير ممّا ورد من أحداث ومواقف على الكشف عن أدقّ مُعَرّفات الشخصيّة التونسيّة العميقة المِزاجيّة المتقلّبة المتناظِمة حينا المتفارقة الملتبِسة حينا آخر بالمتعدّد المرجعيّ ذهنا وسُلوكا.
3- رواية ما بين الوَهَن والقُوّة.
وإلى ما سبق نتبيّن أنّها رواية الوهن والقُوّة معا، ذلك أنّه لا وهنَ في واقع التغالب إلاّ بالقوّة، ولا قُوّة إلاّ بالوهن، وبينهما حَدّ رقيق شفّاف ينقلنا بلا سابق إعلام من حال إلى أخرى مُغايرة. كما هي رواية الساديّة والمازوشيّة تتمازجان أحيانا كثيرة، ورواية الواقع والفانتازيا أو الواقع حَدَّ الفانتازيا. وإذا الأنا في "حرقة إلى الطليان" لصالح الحاجّة سارد ومسرود في الآن ذاته بما اصطلح عليه علماء السرد بالحكاية المتماثِلة حيث لا تبعيد بين مَن يَسرد وما يُسرد: سمة غالبة على السرد الروائيّ والأقصوصيّ والسيْر_ذاتيّ الحديث بعد أن اعتاد السرد على التبعيد تخييلا وتعجيبا بين السارد والمسرود عبر العصور.
"قبل أن تقرأ" هو قوْل ل محمّد الدّسوقي صَدَّرَ به الكاتب نصّه، اختصر بكثافةٍ حال السارد والمسرود معا، فأدْخلنا مُباشرة إلى عالم غريب: بُؤْس وبلاء وتورُّط في الحياة وجهل للنفس، ورُبّما جهل مُتبادل بين الإنّيّ والغيريّ أو تجاهُل، وتفرُّد حَدّ اليُتم الأبديّ تمثيلا ب "نجم وحيد... يُرسِل بريقه عبر ملايين الأميال...، ليُبدّد وحشة ليل مّا، رغم أنّه احترق منذ زمن طويل (ص5).
فمنذ أوّل مشاهد "حرقة إلى الطليان" نستقبل زمنا سرديّا سريع الحدوث بأحداث كثيرة مُباغتة متداخِلة أحيانا، حتّى لكأنّ الموصوف السرديّ واقع حُلميّ أوُ حُلم واقعيّ استحال إلى كوابيس مُتلاحقة في عالم تسوده الفوضى والصدفة والدمامة المُجمّلة، ولا قِيم له إلاّ في المال وبه، وبالاستهلاك والامتلاك حَدَّ التملّك واستبعاد الجسد وتسليع مختلف أحاسيسه ورغباته، وإنْ عنّتْ للقارئ إشراقات قليلة بالأمّ والراهبَة والتجنيح في أعالي السماء بفيْض العشق الصوفيّ كُلّما بلغت أزمة الوجود أشدّها.
4- الاندفاع فرارا اضطراريّا من متاهة إلى أُخرى.
الفرارُ من جحيم الوضع هو الحدث الرئيس في "حرقة إلى الطليان". وهذا القرار لا يُحقّق في الأثناء والأخير أمَل النجاة، ذلك أنّ المنشود شِبه مفقود في عالم موحِش السيادةُ فيه هي للعبث، للصدفة، للكارثة، للعُنف القاتل، للهلاك أخيرا.
فمثّلتْ الهجرة عند بَدْء المَرْويّ أملا سُرعان ما تلاشى بما تَعَرّض له السارد في "بالرمو" من تعنيف "صعاليك عَرَب" له، وما تبع ذلك من مُفاجأة اكتشاف العموم لشَبَه السارد بِروبرتو مارتيني، وهو "مُجرم ولِصّ خطير وقائد عصابة أقوى من عصابات المافيا" (ص40).
وبهذا الوصْم المُفاجئ يُوغل المرويّ في متاهةِ حياةٍ غريبة، داخل مطعم وملهى لحُرفاء مِثليّين يمتلكه ألبرتو كارتوزو القزم الدميم مُروّج المُخدّرات والمستثمر في تحقيق اللّذائذ الغريبة للزُوّار الشُذّاد المازوشيّين الّذين وجدوا في تنكيل السارد، شبيه روبرتو مارتيني، بِهِمْ ما يُدخل على أنفسهم البهجة، مع ما يشربونه من خمور وما يستهلكونه من مُخدّرات. وإذا ليل المتاهة يذهب بعيدا في الوحشة والانحباس كُلّما أوغل السارد فيه ابتداءً من وضعه الاجتماعيّ الصعب في مسقط رأسه وحال أمّه الضعيفة المستضعَفة وهجرته إلى "بالرمو" واعتداء المنحرفين الشبّان العَرَب عليه ومعرفته ل "فيفيانو" أو "فيفي"، وقد ظنّها في البدء امرأة، وهي اسم مستعار لرجُل مُخنّث، وجَلّ مَن في المحلّ الّذي اصطحبه إليه رجالٌ مُخنّثون: "وكان أكثر ما لفت انتباهي هو غرابة الملابس الّتي كان يرتديها الجميع مِن نساء ومن جنس لم أعرف هل هو مِن الذكور أم مِن الإناث!!! (ص55). فمثّلتْ هويّة الكائن الوُجوديّة إشكالا تَعمّق التباسه واشتدّ بفظاعة الوجود ذاته، كما مَثّلتْ هويّة الكائن الفرد الجنسيّة إشكالا بالمِثليّة، ولا صحّةَ نفسيّة أيضا، كالبادي في الانتقال العاجل من الساديّة إلى المازوشيّة، ومن المازوشيّة إلى الساديّة، وكالماثل في تقلّبات شخصيّات المطعم – الملهى، وفي شخصيّة ألبرتو كارتوزو، على وجه الخصوص.
هي حال من الاستيهام المَرَضيّ تملّكت زُوّار الملهى كما تملّكت مالكهُ القَزم القبيح المُخنّث، ولا ترضيةَ ولا إرواء في الحين لهذه الحال إلاّ بالعنف يُسلّطه السارد شبيه روبرتو مارتيني صفعا ولكما وإهانةً لفظيّة لأشخاص تتملّكهم فجأةً هيستيريا التصاغُر، وهُم الأقوياء الأشدّاء المنتفّذين في حياتِهم العامّة.
وتزداد المتاهة ضيقا والتواءً ووحشةً بقرار ألبرتو كارتوزو تملُّك السارد للاستفادة من خَدَماته الغريبة الّتي يُؤدّيها للحُرفاء الشُذّاذ. لذا قرّر السارد الفرار منه ليعود به رجاله إليه، وهو في أسوَأِ حال بعد تعنيفه الشديد، ويُتّهم في مكتب القزم بالسرقة ظُلما وفي حضور شرطيّ. وكُلّما انقضى رعب ظهر رعب آخر أشدّ، كسائق التاكسي الّذي أوْصله إلى بيت "الإمبراطورة" العجوز الثريّة المتصابِية وهمّ بقتله وفي ظنّه أنّه روبرتو مارتيني مُغتصِب زوجته، ولولا الاستظهار بجواز السَفر لأطلق عليه النار، وما عقب ذلك من موت العجوز المفاجئ على مأدبة الطعام، واستمرار وضع أسْره داخل عالم ألبرتو كارتوزو الموبوء، ثمّ الإقدام على فرار آخر بمساعدة سائق التاكسي الّذي أضحى صديقا له.
5- عود بالذاكرة السرديّة إلى تونس: متاهة أخرى ما_قبْليّة.
يتواصل المرويّ في ضيْعة بإحدى ضواحي "بالِرْمو" لينفتح في الأثناء على ذكريات الصراع البورقيبيّ_اليوسفيّ، وفي ذلك وجه آخر للمتاهة والدمامة والرعب المستبِدّ بالكائن والكيان. وإنِ اختلف ما في المكان مِن أشخاص وأفعال فالعالم واحد والدمامة هي ذاتُها تُؤثّث المشهد الكَيْنُونيّ العامّ بخيبة الأمل الجماعيّ من دولة الاستقلال وسيادة استبداد الزعيم الأوْحد بعد غدره بِجُلّ رفاقه من الزعماء الآخرين وتحويل الوطن عند تولّيه الحكم، رغم عديد الانجازات الاجتماعيّة، إلى سجن كبير بمُصادرة الحُرّيات الفرديّة والتنكيل بمُعارضيه، كالّذي حدث سردا روائيّا ل "إبراهيم العيّاط" شُهر "كرطوشة"، أستاذ الفلسفة المتعاطِف مع صالح بن يوسف، وقد هاجر هو الآخر إلى "بالِرْمو" فرارا من جحيم الوضعيّة ليشتغل عاملا بضيْعة امرأة إيطاليّة.
فينفتح المرويّ بشهادة "إبراهيم العيّاط" على مرحلة عصيبة مُؤْلمة في تاريخ تونس المعاصر، بما تعرّض له الراوي وغيره من اليوسفيّين من تنكيل وسجن واغتيال، وأشهرها ما عُرف بفظاعات "صبّاط الظلام" وأقبية التعذيب السريّة...
كذا المرويّ في "حرقة إلى الطليان" لصالح الحاجّة هو قُبح الكيان عامَّةً وإنِ اختلفت الأمكنة، إذْ لا اختلاف بين جلاّدي الاستبداد الحاكم في تونس وبين ألبرتو ماركوزو القزم النذل وغيره من قادة عصابة المافيا وتُجّار المخدّرات والجنس، كما خيانة الإنسان لِأخيه الإنسان واستعباد جسده واستباحة عرضه وكرامته وفكره فهي فاعلة سلبا في كُلّ المواطن، وقمْع الكائن وتدجين الكيان ماثلان هنا وهناك، بالتفقير والقمع السياسيّ في تونس والقمع الاستهلاكيّ والتمييز العُنصريّ في المجتمعات الغربيّة، وإيطاليا تحديدا.
فجحيمُ الكيان هو الجحيم ذاتُه باختلاف الأوقات والأوضاع. وبشاعة نُقصان الكائن تختلف مَشاهدها لتظلّ واحدة مُتكرّرة في المُحصّل الأخير، بما باح به إبراهيم العيّاط من وقائع أليمة حدثت له، كخيانة الزميل والزوجة له ووشاية الجار "عُثمان" المُغرضة به، وانتقامه من الثلاثة مستعينا على زميله الغادر ب "حمّودة الكسّار" وإقدامه بنفسه على حرق زوجته وعشيقها الجار الواشي قبل وقت وجيز من مغادرة البلد بالباخرة إلى "بالرْمو".
وحكاية "مرزوق" البائع المتجوّل هي الأخرى صادمة، وقد حرص "إبراهيم العيّاط" على روايتها لسارد "حرقة إلى الطليان" بالكثير من التفاصيل واصفا ما تعرّض له هذا الرجل من الأذى بنقْله زجرا إلى مستشفى الأمراض العقليّة بقرار عقابيّ اعتاد النظام الحاكم في تونس على اتّخاذه أحيانا ضدّ مُعارضيه.
6- من قبيل الخاتمة أو عَوْد على بَدْء.
هي رواية الوجع، إذن، الجرح النازف، الذاكرة الدمويّة بَدْءا وأخيرا وفي الأثناء، وهي رواية الغدر المُتكرّر، كالحادث انتهاءً بوشاية "مُوحا" المهاجر التّونسيّ بالسارد لدى ألبرتو كروزو وإعلامه بمجيئه.
وإذا "حرقة إلى الطليان" لِصالح الحاجّة نصّ سرديّ جامع بين الرواية وما يقترب في بعض المَواطِن من السيرة الذاتيّة، وهو إلى ذلك يُشير إلى مرحلة في تاريخ تونس شهدتْ، كما أسلفْنا، الخلاف السياسيّ البروقيبيّ_اليوسفيّ. وقد حرص المسرود عامَّةً على انتهاج سبيل الموضوعيّة ببيان بعض خلفيّات هذا الصراع المفتَعلة، وذلك لتركيز سياسة الحزب الواحد والزعيم الأوحد والاستعداد لبدء المرحلة الثانية من تأسيس الدولة الوطنيّة. كما يُلمِح إلى بعض الموَاطن المُعتمة في بناء الشخصيّة التونسيّة بما يستلزم البحث المتأنّي العميق في العَوَامِل التاريخيّة لنشأتها وتكوُّنها ومعرفة خصوصيّتها ذهنا وسُلوكا. ولهذا المسرود أيضا ما يُساعِد على فهم ظاهرة هِجرة التّونسيّ إلى أُوروبّا مُنذ سِتّينات القرن الماضي إلى اليوم، وإِنِ اختلفت الوقائع في الظاهر لِتظلّ الأسباب الكبرى هي ذاتُها في المحصّل الأخير: فقْر وبِطالة وحُرّيّة ومُصادرة إنْ تفكيرا أو تعبيرا في الماضي، وفقر وبطالة وانسداد أُفُق في الحاضر. والأهمّ دلالةً وتدلالا في مسرود هذا النصّ المقروء هو حال الكائن ووضع الكِيان بما يُجَاوِز مجتمعه الأصليّ إلى واقع الحياة الإنسانيّة عامّةً، إلى طبيعة الإنسان ذاتِها نُقصانا، تَعَطّلَ إرادةٍ، استحالَةَ أمل، انقطاعَ حُلْم...
--------------------
صالح الحاجّة/ "حرقة إلى الطليان" تونس: دار ديار للنشر والتوزيع، 2019.
صالح الحاجّة/"20تمرة جريديّة" تونس:دار ديار للنشر والتوزيع،2020.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.