فقدت الساحة الصحية وعلى وجه الدقة ولاية نابل رمزين وطنيين ساهما بقسط وافر في العلوم الطبية والصيدلانية، لكن ما يجمع بين الرجلين ليس مجرّد أنّهما كانا ابنين للوطن القبلي، وإنّما أمور أخرى يعرفها القليل منا: بالنسبة للدكتور الراضي الجازي أوّل من فتح صيدلية بتونس، فإنّه معروف بإنتاجه الغزير والدقيق حول تاريخ الطب والصيدلة. لكن كيف التقيته في الثمانينات وقد كان ذلك قبل أن أؤسس معه الجمعية التونسية لتاريخ الطب والصيدلة، كان ذلك حول مائدة غداء مع المرحوم رئيس الجمهورية الجزائرية الشقيقة في بداية الثمانينات حين تمت دعوتنا لمؤتمر علمي. لكن الحديث مع الرئيس الجزائري حام حول تعريب العلوم الطبية والصيدلانية. نعم كان هذا هو الموضوع الذي من أجله سافرت من باريس إلى الجزائر لأهديه أولى نسخ كتاب التشريح المعرّب والذي نشرته بباريس. وكان ذلك بالنسبة للدكتور الراضي الجازي بمثابة الاكتشاف، فلطالما كما قال لي إثر ذلك كان يبحث عن مصطلحات طبية وصيدلانية باللغة العربية، ولكنّه لا يفلح دائما في التوصّل إلى ذلك... كان شغوفا بالمصطلحات العربية لأنّه كان من اولئك القلائل الذين يبحرون في المخطوطات العربية لابن الجزار وإسحاق بن عمران وغيرهما. إثر ذلك لم نفترق أبدا. وكنا على اتصال وتواصل دائمين. ودائما حول هذه اللغة العربية التي كان يدافع عنها ليس بالشعار أو بالخطب وإنّما بالفعل الميداني الحقيقي. وكانت لنا صولات وجولات حين أسسنا مع المرحوم سليم عمار الجمعية التونسية لتاريخ الطب والصيدلة، حتى أصبح الرئيس الشرفي لهذه الجمعية. أما الفريق طبيب محمد قديش فإني كذلك لا أتصوّر أنّ كثيرا من الناس، حتى الذين كانوا من حوله عند تأسيس المستشفى العسكري وإشرافه على قسم القلب والشرايين وإبداعه وتفانيه في عمله، قلت إنّ القليل من الناس يعلمون شغفه باللغة العربية. نعم لقد كان كذلك! ولقد أشرفت معه إلى جانب الأستاذ عبدالخالق بن رجب على أهمّ الأطروحات في الطب باللغة العربية بكلية الطب بتونس. كان الأستاذ محمد قديش يعشق هذه اللغة حاملة للعلوم. لا يهمّه الكثير من أمرها إذا ما حملت أدبا أو غير ذلك، لكنّه كان عاشقا لهذه اللغة العربية بمصطلحاتها العلمية الدقيقة. أذكر أنّه كان في هذه الأطروحات المهمّة جدا كان لا يسحب البساط منا ومني بالذات إذا ما دقّقت مع مترشّح لنيل الدكتوراه جهرا، ثم فيما بيني وبينه كان يعاتبني إن كنت قاسيا بعض الشيء!! العسكري يعتب على المدني قسوته.. كم كنت أعشق ذاك الرجل. وكان من حين لآخر أثناء هذه المداولات يضطر للاعتذار ومغادرتنا قبل الأوان لمهاتفة تصله من قصر قرطاج… لكن وبما أنني ذكرت الهاتف فكثيرا ما يرتسم على شاشة هاتفي الجوال رقم رئاسة الجمهورية فأعلم أنّه الأستاذ محمد قديش يرغب في التعرّف على مصطلح ورد في المعجم الطبي الفرنسي العربي الذي ألفته، وأحيانا كان يمتعض من مصطلح مثل المعثكلة، إلى غير ذلك. ثم لا بدّ من أن أذكر أنّ أوّل مطلب شراء لهذا المعجم وصل إلى الناشر (أليف تونس) كان صدر من رئاسة الجمهورية بإذن من المغفور له محمد قديش. أما المرحوم الراضي الجازي فقد كان بمثابة الوكيل التجاري لهذا المعجم يدافع عنه، ويهديه على حسابه الشخصي. لتونس رجال علم.. إلى جانب من كان يحذق كرة القدم. تغمّدهم الله بواسع رحمته وأسكنهم فراديس جنانه.