كثر الحديث هذه الأيام عن الدستور الجديد، عن صلاحيته، عن ملاءمته وعدمها بالنسبة لتونس، عن وجوب تحويره، لتفادي نقائصه، وغير هذا من الآراء والاقتراحات التي في مجموعها مقبولة معقولة ضرورية لازمة، خاصة وأن معظمها، الذي اطلعت عليه شخصيا على الأقل، صادر عن أخصائيين، وبأقلام مشاهير، في مجال القانون والأنظمة السياسية، والدساتير، وقوانين الانتخابات، وبكلمة موجزة، ما نحن وتونس غارقون في خضمه، ونبحث عن النجاة ممّا يهددنا بسببه. اخترت من بين ما قرأت، ما جاء بقلم اثنين من كبار ومشاهير الأساتذة المختصين، المعترف لهم تونسيا وعالميا، بالمعرفة والقدرة وصواب الرؤيا. سوف لا أذكر اسميهما ولا أي اسم آخر، لأني أحاول في كلّ ما آتيه، اعتبار الأعمال ونتائجها بعيدا عن الأسماء والألقاب. أما اختياري هذا الثنائي الذي سأجتهد بتعريب ونقل ما كتب بلغة أجنبية، فأساسه ومرجعه قيمة الكاتبين العلمية التخصّصية واستقامتهما المعروفة، ولأن البطلين متناقضان ولو اتفقا. أما أحدهما فيبدو غير معارض تحوير الدستور لنقائص وعيوب فيه عدّدها، وإنه، حسب رأيي وفهمي، قد جلس فوق كل الاعتبارات، مجرّدا من أي انتماء إلا لما يراه ويعتقده الأصلح، علميا وتقنيا وتجريبيا ووطنيا، دون فرض رأي أو حلّ، بل بعرضِ بعض الحلول. أما الثاني، فهو يدافع عن الدستور ولا يراه سببا فيما تجتازه البلاد من عدم استقرار، وهو، حسب رأيي وبكلّ احتراز، متحزّب أو هو غير بعيد عن الأحزاب. رغم هذا، فكلّ ما جاء فيما كتب أخضعه بحكمة ومعرفة، لعلمه واختصاصه وتقنيته. هكذا قدّم كلاهما درسا وعبرة لأولي الألباب. كنت أنوي تقديم مقارنة تحليلية لما قرأت، وإبداء ما قد يبدو لي من آراء أو أحكام، لكني عدلت لاعتباري أني لست من ذوي الاختصاص، ثمّ أن صنيعي سيصبح إيحاء أو إيعازا أو تأثيرا، على من سيتفضّل بقراءة هذه الأسطر، فيأتي رأيه أو حكمه أو قراره، عبر أو من خلال، ما أوحيت له به ومتأثرا به. وهذا لعمري غير مُجدٍ، وهو علّة عانينا وقاسينا، ولا نزال نعاني منها الكثير، لأسباب ثقافية، وتكوينية، أصبحت فينا عادة أصيلة، أسميتها " الكلام برأي الغير". لذا فضلت نقل ما قد يفيد ويدعو للعبرة والتفكير، مما كتب الخبيران، والقارئات والقراء الأفاضل، أحرار فيما يرون ويفهمون. كتب الأوّل يقول: " إن مقدمة الدستور السويسري تؤكد أنه :" علما بأن ما هو حرّ إلا مُستعمِل حريتَه، وأن قوّة المجموعة تقاس برفاه الأضعف بين أعضائها" فهذا هو هدفنا جميعا. إني لا أعتقد البتّة بأن أيّة إصلاح هيكلي سيضمّد جروح الشعب التونسي، وسيعطي الأضعف الرّفاه الذي يريده. إنه، حسب رأيي، سوف لا يفعل إلا دمقرطة التألم والحرمان، تحويل أنظار الجماهير بلا جدوى، والفشل في حل أي مشكل." بعد هذه النظرة الإنسانية نجده يلتفت إلى إحدى المعضلات الكبرى وهي الانتخابات والتمثيل النيابي فيقول: "إن تمثيل الناخبين تمثيلا واضحا ومنسجما، بدل فسيفساء الأحزاب هذه، بتحالفاتها التقلبية، غير المستقرة، وأخيرا غير قادرة وعديمة المفعولية، هي هذه المبادئ." نعم سيدي، هذه هي المبادئ المطلوبة والغائبة. فما قولك في الدستور؟ " إنه، مع إبراز أن المسائل الدستورية ليست وحدها أسباب الأزمة التونسية الشاملة، يجب الاعتراف بأنها تساهم فيها بقسط كبير، وذلك باعتبارها مصدر عرقلة المؤسسات الجمهورية. إن المؤسسين، وهم يحررون الدستور، لم يأخذوا ما يكفي من الاعتبار الحقائق الاجتماعية والسياسية لبلادنا." أما الكاتب الثاني فهو يقول: " إن الذين ينادون بمراجعة دستور عام 2014 حالا، يذكرون عدم الاستقرار الحكومي المتراجع، وتشتت السلطات والصفة الهجينة، عديمة الصلاحية وغير ممكنة التطبيق، التي عليها النظام السياسي الذي اختير: فلا هو برلماني ولا هو رئاسي. هذا طبيعي ومشروع. لإن أية دولة تحتاج إطارا دستوريا مناسبا لحل عديد المشاكل الحادة التي، يزداد استفحالها باستمرار. رغم هذا، يبدو لنا خطأ الظن بأن المرض يكمن في الدستور أو في النظام السياسي المختار". "إن موازنة سريعة للنظام السياسي المنبثق عن تطبيق الدستور، منذ إقراره عام 2014 تُبرِز تثنية بين نظام شرعي منصوص عليه من طرف النص الدستوري، ونظام واقعي مختلف متبع منذ 2014." كيف ذلك ومن أين أتى؟ " إن طريقة من الطرق الأساسية التي أشار إليها الدستور مضمنة بفصله 89 فقرة 2 هي أن الحكومة تنبع من أغلبية فائزة خلال انتخابات تشريعية: وهي التي تكون قد حصلت على أكبر عدد من المقاعد... هذه القاعدة – كما نعرف – لم تطبق قط. فلا الحكومة ناشئة عن أغلبية برلمانية، ولا رؤساء الحكومات المتتالون انتسبوا لتلك الأغلبية أو هم رؤساء تلك الأغلبية. منذئذ، كل النظام المقدر سيكون مشوشا بقواعد موازية." هذا قليل من كثير، كله قانوني تقني خلاصته، جاء التعبير عنها صراحة أو لم يجئ، أن الدستور الجديد، رغم بهرجته ومظهره التقدمي، غير مناسب ولا ملائم لتونس وأوضاعها الحالية. يكفي التذكير مثلا، غياب الاقتصاد وحاجياته، إذ أنّه لم يلتفت له من قريب أو بعيد، وهو أهم ما تعتني به الدساتير عموما، خاصة منها القريبة العهد، مثل دستور هذه البلاد التي تأويني أعني إسبانيا، أو جارتها البرتغال. أن العالمان، رغم ما يتمتعان به من علم، ومعرفة، وخبرة، وتجارب، لم يتعرّضا بوضوح ومعرفة قانونية، لا لقانون الأحزاب، ولا لسبب كثرتها، ولا للطريقة أو الطرق التي مهدت وسهّلت لها الحصول على تراخيصها بينما هي أكبر سبب فيما يحدث ويشتكى منه. حتى القانون الانتخابي، الذي برهن هو الآخر على عدم ملاءمته أوضاعَ تونس وثقافتَها، لم ينل ما يستحقه من الاهتمام والتحليل وتقديم البديل. إن نظام الأحزاب الذي عمّ في دنيانا، أعطى الدليل القاطع على عدم تحقيقه ما تطالب به أغلب شعوب العالم من حرية، ومساواة تعطيان حق الداني فترفعه، وتقللان من عنجهية السامي وهيمنته، كما برهن على أنه السُلَّم الذي يمتطيه الطامحون لبلوغ مراكز السلطة والتحكم. لذا فلا أمل من تغيير هذا النظام، ما دامت المفاتيح بأيدي أصحابه المنتفعين منه. لقد وجب البحث عن نظام مختلف يقتلع هيمنة وتسلط وعنجهية الأحزاب. يجب ألا ننسى أن الديمقراطية ثقافة، تحتاج إلى التعلّم والتدرّب عمليّا. أتيحت الفرصة بكل معطياتها بأن يتدرّب الشعب التونسي، فيمارس الديمقراطية تدريجيا منذ فجر الاستقلال، تحت ظل الدستور الأول الذي، لم يكن كاملا ولكنه كان مناسبا، عيبه الوحيد عدم تطبيقه، رغم توافر كل المتطلبات لذلك قياديا، إنسانيا، حماسا، احتياجا واستعدادا. فلماذا لم يطبّق إذن؟ إنه فوق كلّ ذي علم عليم. مدريد في 12-9-2020.