إن تصنيف الثورات، في أي مكان أو زمان، طبقا لمرجعيات دينية ومذهبية أو ايديولوجية، يعتبر خطأ معرفيا وفكريا وسياسيا جسيما، ومحاولة مبيّتة لتشويه مقاصد تلك الثورات، والتحريض المتعمّد ضدّها. وقد سعي الامبرياليون، في منتصف القرن الماضي، الى انتزاع ثورات الشعوب في كوريا وكوبا وفياتنام وغيرها من البلدان، من سياقاتها الوطنية لحشرها في خندق المدّ الايديولوجي المناهض للرأسمالية. لكن هذه المحاولات باءت، في تلك الفترة، بالفشل الذريع، إذ وجدت تلك الثورات مساندة عالمية قويّة من جميع التيارات الدينية والايديولوجية والسياسية والفكرية، وخرج الاساقفة والاحبار والحاخامات والائمة في كل مكان لنصرة الثوار اللائكيين، إيمانا منهم بأن الثورة، ومهما كانت مرجعياتها وألوانها، تنبثق، أساسا، من رحم الارادة الشعبية، وتحمل اكثر القيم نبلا وقداسة آلا وهي: الحرية. وإذ ما تأمّلنا في ما حدث على حدودنا، في تلك الفترة، نجد أن الثورة الجزائرية قد وحّدت، إبّان اندلاعها، اليساريين واللائكيين ورجال الدين في كل انحاء العالم، وخرج الفيلسوف الفرنسي الملحد جون بول سارتر ليقود سلسلة من المظاهرات الصاخبة لنُصرة الثورة الجزائرية ذات المرجعية الدينية والقومية، وقد جمعت تلك المظاهرات العديدة من رجال الدين المسلمين والمسيحيين واليهود، وزعماء اليمين واليسار. وعلى قياس هذه الامثلة، التي سردناها للدلالة وليس الحصر، كان التفاعل مع الثورات منذ القدم وفي جميع انحاء العالم، فلم نسمع، أبدا، بثورة جُرّدت من شرعيتها بسبب معتقداتها أو ايديولوجيتها، بالرغم من كل حملات التشويه التي يقودها اعداؤها من قوى الثورة المضادة. فليس بالضرورة أن تكون مسلما شيعيا لنصرة الثورة في ايران والبحرين، أو سنّيا لتعارضها، وليس بالضرورة ان تكون سلفيا لدعم الثورة في الشيشان، يكفي أن تكون انسانا ومؤمنا بقدسية حرية الافراد والجماعات، وحقّ الشعوب في الحرية والكرامة لتلتزم بالدفاع عن الثورات ونصرة قضاياها، طبقا لما ورد في الكتب السماوية، والدساتير الوضعية، والمواثيق الدولية، والاعلان العالمي لحقوق الانسان. أردت تناول هذه المسألة الهامة، وقد كثر الحديث في الاعلام الامريكي والأوروبي، بالخصوص، عن ماهية ومقاصد وأهداف الثورات العربية المضطرمة حاليا، وطبيعة مرجعياتها الدينية والمذهبية والايديولوجية، وقد ذهب العديد من السياسيين وصناع القرار في الغرب الاطلسي الى حدّ المطالبة بالتحري، بدقة، في ألوان هذه الثورات قبل الالتزام بدعمها، خاصة وأن فرضية طغيان المعطى الاسلامي عليها اصبح يؤرقهم بشدة، فالغرب لا يريد للتجرية الايرانية أن تتكرر، بأي شكل من الاشكال، في بلدان عربية وإسلامية اخرى، حتى وإن نالت اجماع أغلب أبناء الشعوب المعنية. ومن هذا المنظور فإن الامريكيين والاوروبيين لا يتعاملون مع الثورات الشعبية، كحركات تحرّرية، وإنما كتيارات دينية أو ايديولوجية، فإن كانت تتماشى ومصالحهم ساندوها ودعّموها، وإن بدت خلاف ذلك وَأَدُوها.