تقول الحكمة الكثيرة الشيوع، العاقل من اعتبر بغيره فلا يأتي ما أتاه إن سبّب له أضرارا، ويحاكيه إن كان مردوده نفعا، لكن لا يأتي هذه لمحاكاة إلا بعد التأكّد من أن ما سيحاكيه ويُقلّده، يناسبه ويتماشى مع وضعه، وبنيته، وأحواله، لأن الأمور وأشكالها وحلولها، هي أشبه شيء بالملبوس من الثياب، يعجب إذا وقع عليه النظر على جسم الآخر، لكنّ ذلك ليس شرطا بأن يناسب ويلائم كلّ من يُعجب به وبمظهره. فلونه ونوعه وحجمه وحتّى مادّته، إن بدت كلها جميلة، أنيقة، على لابسها، ليس شرطا أن تكون كذلك عليّ أو عليك. فالحكمة تقضي إذن بالتحرّي، والتبصّر، والتأكد من معطيات كلّ الأطراف وتوفّر الشروط الضروريّة، قبل التقليد أو الاقتباس، أو المحاكاة. لكن إن كثرت الشروط واللزوميات في كثير حاجيات ومستلزمات الحياة ونشاطاتها، فالأقوال والحكم أقلّ صعوبة في العمل بها وبما توصي به أو تنصح. ويزداد الأمر سهولة وبساطة، إذا صدرت الحكمة أو القول الصّائب عمّن هو منّا وإلينا، عرفناه وقدّرنا معارفه، واستحسنّا آراءه وأفعاله، لإيماننا بصدقه وصدق مشاعره، خاصّة منها الوطنية، والنزاهة، والسيطرة على العقل والعمل به. لكلّ هذا ما سأقدّمه للقارئات والقرّاء، ما هو إلا مجموعة من المقتطفات، استخرجتها من حديث ومقالات أستاذنا الكبير، رجل القانون السيد عياض بن عاشور، جاءت بلغة أجنبية، فعرّبتها – مؤمّلا أن يكون التعريب غير مُحرِّف – حتى يستفيد قراء العربية، عبر هذه الصحيفة، فتتسع رقعة الفائدة وعدد المستفيدين، لأني استفدت ولا يكون المرء مؤمنا حتى يحب لأخيه ما يحبّه لنفسه. بهذا القول الكريم فعلت فأقدمت. يقول حكيمنا، " إن الشعوب لا تعرف دائما ماذا تريد، أو حتى أنه بمقدورها أن تريد الأسوأ، عندما تقع في نشوة الخطب الديماغوجية من بعض المتزمتين المستنيرين." حقيقة كثيرا ما اشتكينا من نتائجها، لكن بعد فوات الأوان، فيحق علينا المثل الشعبي بحكمه: " بعد ما اتخذ، شرى مكحلة." أما بخصوص القانون عامة، صلاحياته ومطابقاته للأوضاع والحالات فيقول لنا بشأنه: " ليس العدد الحسن هو الذي يعطي القانون الحسن، بل هو القانون الجيّد الذي يعطي العدد الحسن." أعتقد أن من يقرأ هذا يلتفت حالا وتلقائيا، نحو قصر الباردو بحثا عن تأكيد لهذا القول. تحت قبّة ذلك القصر التاريخي، تُقَيّم الأمور، وتعالج المشاكل بالأرقام والأعداد من كلّ نوع ولكلّ غاية وهدف، لا بالقِيَم والكفاءات، للحصول على النتائج الصالحة المفيدة المرجُوة. تأتي الآن صورة، أو هو وصف صحفي قدير، يجسّم واقعا أليما غريبا يصعب فهمه، لأنه كما جاء على لسان أستاذنا الكبير: “إن من المفارقات، مشاهدة الذين بقوا دائما على حياد من مقاومة الدكتاتورية، وانزووا لأقل طلب، أصبحوا، بعجرفة وتكبر، الناطقين باسم الثورة والمعبرين عن رسالتها." أليس هذا باختصار وحسن تعبير، تصويرا يجسّم واقعا أينما تتراقص أبطاله، كأنها تقول للمواطنين، "موتوا بغيضكم واتوا ما عندكم إن أنتم قادرون؟" الشعب بأكمله، بصغيره وكبيره، بفقيره وغنيّه، بعارفه وقليل المعرفة، الشعب بأسره يشكو ويقاسي ويتألم من الفساد وتوابعه، فيعطيه الكريم الخبير دواء بقوله " إن الفساد يزول بمفعول سياسة حازمة ودائمة على مستويات عديدة، يأتي بها مسؤولون سياسيون هم غير فاسدين، عكس ما هو الحال بتونس ويا للأسف." أعتقد، بما أن الحكم للشعب، عليه تقع المسؤولية، إذ هو الذي يختار فيأتي ليسوس ويقنّن، فليأت الشعب بالصالحين. جاء المثل العربي الشهير يقول " إذا قالت حذام فصدّقوها * فإن القول ما قالت حَذامِ " وأستاذنا حُذاميّ القول لذا لا مفرّ من تصديقه عندما يؤكّد " إن قيس سعيّد، ذا النزاهة فوق كل شك، وأنا في موقع يمكنني من هذا القول، عليه أن يغتنم مكانته ليشرع، مع الحكومة، في سياسة حقيقية خالية من التنازلات، لاقتلاع الفساد، كما جرى في رواندا، وإثبات المفسدين والتشهير بهم، بدل استعمالنا الأحلام. " هل اطلع الرئيس على هذا الطلب النصيحة؟ هل أبلغه مساعدوه الإعلاميّون، وزملاؤهم المكلفون بالحفاظ على حسن الصورة وسلامتها ما أشار به المفكر الزميل؟ لست أدري. فإن لم يتمَّ ذلك فعسانا نوصله إلى أسماع قصر قرطاج فنكون من المساهمين. إن الحريّة أنواع، والتّمتّع بها أشكال، لكن لا قوام لها إلا بالشعور بها. هذا ما أراد مفكّرنا أن نفهمه جميعا، عندما نقل لنا ولغيرنا الرّأي أو الحكمة من مقدمة الدستور السويسري، كأنه بذلك أراد اعطاءنا مثالا تطبيقيّا لما يشير به، فيعلمنا أن المقدّمة تؤكد: " ... بأن ما هو حرّ إلا مستعمل حريته، وأن قوّة المجموعة تقاس برفاه الأضعف بين أعضائها" يواصل الأستاذ فيقول:" هذا هو هدفنا جميعا. إني لا أعتقد البتّة بأن أيّ إصلاح هيكلي سيضمّد جروح الشعب التونسي وسيعطي، الأضعف الرّفاه الذي يريده. إنه، حسب رأيي، سوف لا يفعل إلا دمقرطة التألم والحرمان، تحويل أنظار الجماهير بلا جدوى، والفشل في حل أي مشكل." لم يكتفِ أستاذنا عياض بتعريف من هو حرّ حقا، بل ولج دنيا المجتمع وقوّته التي لا يحصل عليها إلا عندما يحصل الضعفاء فيه على قوتهم الماديّة والجسمية فالنفسانية. إن المواطن الصالح، الصادقة وطنيّته، لا يستطيع عدم التعرّض، ولو قولا لا غير، لما يمرّ به وطنه. فها هو مفكّرنا يضع إصبعه على الدُّمّل، فيقول ما يراه المبادئ التي نحن في حاجة إليها: " إن تمثيل الناخبين تمثيلا واضحا ومنسجما، بدل فسيفساء الأحزاب هذه، بتحالفاتها التقلبية، غير المستقرة، وأخيرا غير قادرة وعديمة المفعولية، هذه هي المبادئ." إن في هذه العبارة إشارات غير التي وضحت فيها، منها تغيير قانون الانتخابات وغيره. تمرّ البلاد منذ أكثر من عقد، بأزمة قاتلة لا سمح الله، إن لم نستطع تحديد العلّة ووصفها، فالعمل بجدّ ونقاء وصفاء، على إيجاد الدواء الصالح لها، سنقول، إن آجلا أو عاجلا، على تونس التي عرفناها السلام. لأنه كما يقول محدثنا البليغ، " إنه مع الإقرار بأن المسائل الدستورية ليست وحدها أسباب الأزمة التونسية الشاملة، (المعممة)، يجب الاعتراف بأنها تساهم فيها بقسط كبير، وذلك باعتبارها مصدر عرقلة المؤسسات الجمهورية." لماذا يا ترى؟ لأنه كما جاء في رأي الأستاذ " إن المؤسسين، وهم يحررون الدستور، لم يأخذوا ما يكفي من الاعتبار الحقائق الاجتماعية والسياسية لبلادنا." نضيف نحن من عندنا وذلك لحاجة في نفس يعقوب. لأن الدستور، الذي أقيمت الدنيا وأقعدت ترحيبا به مثالا فذّا، لم يسبقنا لمثله أحد، لم يكن، وما هو في الحقيقة، إلا لباسا على مقياس حاجات ومصالح واضعيه، وكي نكون منصفين نضيف، مصالح فئة من واضعيه، لأننا لا ننفي ولا ننكر النزاهة وحسن النية عن الجميع، لأننا نؤمن إيمانا قاطعا، بأن فينا الصالح والطالح، وفينا الخيِّر والشرّير، وفينا الضال والمهتدي، وعسا الله أن يكون الحسن منا أكثر من السيّئ وفوق كلّ ذي علم عليم. مدريد يوم 4-10-2020.