سردت في المقالين السابقين تسلسل حدثين ،أو مناسبتين ، أو ما جرى لي في لقاءين في بلدين متباعدين ، بفارق زمني يفصل بين الحدثين يفوق النصف قرن ، وكانت بطلة القصتين تونس الخضراء ، التي قَلَّت اليوم خضرتها حسب الكثيرين ، تونس التي أحبّها الإيطاليّان – في القصة الأولى - وعشقها الإسباني – في الثانية - ، تونس التي طاب ذكرها في معظم البلدان التي حللت بها وهي كثيرة ، شمالا وشرقا ، تونس الأعماق ، لا تونس الواجهة السياحيّة ، تونس الأمس التي كانت أفقر من اليوم ، وكانت أقل علما ، وثقافة ، وتطوّرا ، وصحّة ، مما هي عليه اليوم – حسب قول من بيدهم الزمام - ، تونس الكادحة في سبيل العيش ، المكافحة آنذاك ، بحثا عن الانعتاق والتحرّر. تلك هي تونس بطلة المناسبتين اللتين اختصرت وصفَ ما سمعت وشاهدت أثناءهما من إكبارتونس ، وإعجاب بتونس ، ومحبة تونس ، لا نفاقا كي تُوقّع اتفاقيّة ، ولا تملّقا بحثا عن تمرير سياسة معيّنة ، أو موقف يفيد المادح المتملّق. تونس التي ، بكلّ النواقص والعيوب التي كانت ، ولا شك ، موجودة بها وفيها ، نالت استحسان معظم من عرفها وهي تكدّ لتعيش. دخلت صيدلية ، في إحدى المدن الألمانية أبحث عن دواء أو بديله ، فما أن قرأت السيدة المؤدّبة اسم الدواء حتى عرفت مصدره ، فابتسمت لي وقالت: أنت لست فرنسيا. قلت لا. من أين ؟ إن سمحت بالسؤال ؟ قلت من تونس فكانت المفاجأة. فوجئت لوقع جوابي وتصرّف السيدة غير المنتظر، لأنها بدل الانسحاب لتأتيني بالدواء أو تأسف لفقدانه ، قالت بصوت أعلى من العادي ، كأنها أرادت إشراك الحاضرين ، وبابتسامة عريضة: تونس ، أنت تونسي ؟ أهلا بك ونزلت سهلا. لقد سمعت عن بلدك كثيرا ، فصهري زارها مرتين ، حسب قوله، وصديقة أخرى ، طبيبة وباحثة في مجال الصحة ، بقيت فترة هناك لأداء واجب من واجبات عملها ، وكلاهما لا ينفك يتحدّث عنها ، وعن أهلها وطيبتهم كطيبة مناخهم ، فأهلا بك يا سيدي. شكرتها والتفت حولي فإذا بي طعمة لنظرات وابتسامات أربعة أو خمسة زبائن ينتظرون ، فأجبت بابتسامات وانحناءة رأس ، فخورا بالتربة التي أنجبتني. إن لكل تجربة درس ، ولكل قصة عظة ، ولكل حكاية فائدة ، وقد منعني طول السرد في المقالين السابقين – رغم الاختصار والاقتضاب - من استنتاج عبرة ، أو نيل فائدة أو على الأقل طرح أسئلة ، والبحث عن أجوبة مقنعة لها. فالاستحسان وطيّب الذكرى ورسوخ التاثر والشوق لتونس - التي لم تعرفها الأجيال الحاضرة من أبنائها - وإذا ذكرها أحدهم ففي ذكره إياها نوع من الخجل ، لنواقص وعيوب ، وتأخر حضري، وتقاليد وعادات ، وغير هذا كثير مما يعتبره الذاكر شائنا له ، محِطّا من قيمته أو تمدّنه أو تحضّره ، ناسيا أو متناسيا ، أنّ معظم ما يفتخر به " اليوم " ليس له ولا هو منه ، بل هو لباس مقترض مهما جادت نوعيته أو غلا ثمنه ، فما هو إلا محاكاة قد تناسب أو لا تناسب ، قد تفيد وقد تضر، وما المحاكاة في النهاية إلا تنكّر في زيّ أو شكل أو طبيعة الغير، لا اصل ولا أصالة فيها. قد يُراد التطوّر بالمحاكاة والتقليد ، وهذا لعمري طريق مسدود ، لأن التطوّر تحوّل من طور إلى آخر، من حالة إلى أحسن منها ، من وضع إلى ما هو أفضل منه. لذا فالتطوّر انطلاق من الأصل ، من الأصالة ، من الجذور، يؤدّي إلى تنظيف التربة من الأعشاب الضارة والطفيلية ، وتقويم المعوجّ فيستقيم ، وإزالة الطالح والإتيان بالصالح ، وبما يتماشى ويناسب المناخ والبيئة والنفسيات والطباع ، وحتّى المعتقدات في بعض الظروف. كأني تهت في مجال آخر فأرجو المعذرة ، وها أنا أعود إلى ما كنت بصدده ، وهو طيب ذكرى تونس والتساؤل بشأنها. تونس المذكورة بكل خير ، المحبوبة المعشوقة ممّن عرفها من الأجانب هي تونس الماضي ، تونس المستعمرة ، تونس المكافحة ، تونسالمتحدة رغم الاختلافات – كما قال صاجبي – تونس الباحثة لها عن مكان يليق بها وبتاريخها وإنجازات ماضيها. أما التساؤل فهو عمّا آلت إليه تونس الحاضر. تونس المستقلة – إن صحّ القول – ، تونس المتعلّمة – إن حسن التعليم – ، تونس المتطوّرة – إن نبع التطورمن جذورها فمسّ الأساسيات لا المظاهرالزّائفات ، تونس المتبجّحة عن ضلال ، وأخيرا تونس الانتفاضة - المُسمّاة ثورة – والتساؤل آت ، لا من أبنائها الحيارى فقط ، بل من الكثيرين الذين عرفوها من قبل جيّدا ، وأحبّوها ، وتابعوا نشاطاتها فاستحسنوا وأعجبوا ، وها هم اليوم حيارى مثل أبنائها. سألت مرات، وكانت الأخيرة سؤالي صاحبي وبعض رفاقه عمّا يدعوهم إلى الاستحسان أو حتى الإعجاب فأتاني الجواب ، بل الأجوبة مخرصة مقنعة ، قد لا أحسن ترجمتها ، خلاصتها تقريبا كالآتي: " إنها تسير سير العصر ولم تفقد خصوصياتها الماديّة والمعنويّة." وهذا بلغتنا " بالفلاقي" معناه: هي ابنة عصرها لكن " لم تخرج من قشرتها." فماذا أصاب تونس يا ترى ؟ لست في وضع من الاطلاع على حقائق الأمور، ولست قريبا من الأحداث وفاعليها ، علاوة على أني لا أعرف أحدا – ولا واحدا – من الذين ركبوا العربة ، واحتلّوا الرّكح ، وشرع كلّ "بطل" منهم يمثل دوره في هذه التمثيلية ، هذه المأساة ، الطويلة الفصول ، الكثيرة المناظر والمشاهد الحزينة المثيرة ، عقدتها أو عُقَدها لا يحلّها ولا "هتشكوك" ، لأنها مبنية على غير اسس ، مؤلفة بلغات عدّة ، وهي فاقدة المنسّق والمخرج. لكلّ هذا ولغيره ، لا استطيع من صومعتي ببلاد الغربة ، ومن بعدي عن مسرح التمثيل – أو هي الشعوذة ؟ - لا أستطيع ولا أسمح لنفسي بإبداء الرأي ولا بالحكم إلا على الواضح ذي البرهان الدّامغ ، الذي لا شكّ فيه كما لا شك في الله ، وأعني الانتهاز ، والادعاء عن غير أهلية ، والتحدّث باسم تونس وهي من ذلك براء أو لعلها الضحية. عبارة شهيرة تقول عاش من عرف قدره وجلس دونه. هكذا توصي ثقافتنا المفقودة. ثقافتنا الإسلامية بفسيفساءتها الأمازيغية العربية المغاربية الإفريقية التركية وما سبق ولحق من تركيباتها. توصي المقولة ، أو هي تعطي وتشرح باختصار معنى وسرّ التواضع ، لأن التواضع برهان الواثق من نفسه ، قوّة المؤمن بمقدرته وتأهله ، وراحة ضمير المتأكد من قيمته الأدبية وسمعته الاجتماعية والعملية. لكن التواضع فقد عندنا ، واحتلّ مكانه وترعرع بيننا ، خاصّة منذ سقوط الدكتاتورية، ما أحوصله في عبارة " أنا على كلّ شيء قدير" أو عبارتنا الشعبية القائلة " منّي تقرع ". هذا ، حسب رايي المتواضع ، وبلا تحليل ولا عميق دراسة ، هو ما أصاب تونس أجيب به عن استفسار السائلين. جواب قد يحتاج إلى شرح وتوضيح ، يحتاجان بدورهما إلى واسع اطلاع ، ومعرفة أسرار وخبايا ، وفهم ما هو ظاهر للعيان لمعرفة ما اختفى وراءه أو تحته. لنأخذ مثلا كثرة الأحزاب السياسية! فمن المتكرّم بمنح تراخيصها منذ الساعات الأولى من سقوط النظام السابق وقبل أن تستقرّ الأمور نسبيا؟ على أيّة قاعدة وبأيّ شروط منحت التراخيص ؟ هل جرى التحرّي والتأكد اللازمان الضروريّان من صحّة الأدلّة بالوفاء لتلك الشروط ؟ ثمّ يأتي التمويل. من ومن أين تموّل كل تلك الأحزاب ؟ إنّ المواطن البسيط مثلي ، رجل الشارع كما يُسمّونه وهم محقون لأني مثلا ، لا بيت لي ولا مأوى ، متأكد من حقيقة واحدة هي أنّ كلّ حزب له نصيب ، مبلغ مالي ، يستخرج له من الخزينة العمومية ، خزينة الشعب ، ويسلّم له بكلّ " أحقية " قانونية " ، ولا مراء من أنّ هذا هو أحد الأسباب لكثرة الأحزاب. نفس السّؤال ، ونفس التفسير أو الشرح يُقال بخصوص وسائل الإعلام ، خاصّة قنوات الإذاعة المرئية ، وكذلك الجمعيات أو المؤسسات المدنية ، وعلى نفس الأساس هناك الكثيرمن الأمثلة لأن الأمور لم تعد تدار وتعالج وطنيا أو سياسيا ، بل ماديا لأن البلاد اصبحت تعيش ثقافة المادة. وقفة قصيرة يستحقها مجلس النواب ، نواب الشعب نظريا. هل قُمن وقاموا حقّا بتمثيل منوبيهم بصدق ونزاهة وأمانة وإخلاص ؟ إن وجدت بعض هذه الصفات: هل استعملت حقا وبكلّ صراحة لفائدة المنوِّبين ، أي لفائدة الشعب ووطنه ؟ أم لفائدة غيرهم ، كالأحزاب المنتمين إليها النواب ، أو خدمة لغيرها من غير الأحزاب ؟ أترك لمن سيتحمّل مشقة قراءة هذه الأسطر – وبها يجد طلب المعذرة – حق ووجوب البحث عن المستفيد من مواقف وفصاحة ، وحتى الخروج عن اللياقة ، التي ميّزت معظم أو بعض من قيل أنهم ممثلو الشعب. لا غرابة أن يتساءل الذين يعرفون تونس ، فيسألون ويبحثون عن فهم ما أصابها. ليتأكد كل من سيشرّف هذه الكلمات بقراءتها ، ليتأكد أن ليس في ما جاء عن تونس الماضي تحبيذ له أو حنين وشوق بل هو لمجرّد المقارنة. كثيرا ما يقارن الناس بين شيء وآخر، أو بلد وآخر، وهذا لا يؤدي إلى نتيجة مرضية واقعية ، لاختلاف ظروف وأوضاع الشيئين أو البلدين المقارن بينهما. فالمقارنة الحقة الصحيحة تكون بين وضعي أو حالتي الشيء نفسه. فبما أننا نتحدّث عن تونس تكون المقارنة المفيدة بين تونس وما هي عليه ، وما كان يمكن أن تكون عليه بنفس الإمكانات ونفس الظرف والأطوار المحيطة. هذه هي ، على ما يبدو النظرة المقارنة التي دفعت الغرباء إلى التساؤل والحيرة. إن الكثيرن يرون أن أسس العمل والنهوض اهتزت ، قواعد وثوابت سير وعمل فُقدت وهذا يذكرني ببيت شعر ، لأني بأرض قائله وهو أبو البقاء الرُّندي: قواعدٌ كنَّ أركانَ البلاد فما عسى البقاء إذا لم تبقَ أركانُ لمثل هذا يذوبُ القلبُ من كمدٍ إن كان في القلب إسلامٌ وإيمان مدرد في 28-4-2019.