إن العادة لها من قِبَل العلماء المختصين، تعريفات كثيرة ملخّصها أنها " تطبيق أو طريقة عادية مُتكرّرة، لفعلِ أو تفكير إنسانٍ ما، أو ضمن ثقافة وتقاليد." وأيضا " هي تطبيق مُتبَع من معظم الأشخاص، كرّسه التطبيق " أيّا كان تعريفها، فهي لديّ سيّئة ولي منها الكثير. إحداها أني كلّما صادفني قول بليغ، أو جملة عجيبة، أو رأي حكيم، علّمته، إن كان بكتاب، بقلم الرصاص الذي لا يفارقني عند المطالعة، أو استعملت المقص إن جاء بصحيفة أو مجلة، وإن كان سماعا أسرعت في كتابته. واضح جدّا أن عادتي هذه غايتها جمع مذكرات مهمّة يُسْتشهَد بها عند الحاجة. لكن هذه السيئة، كما أسميتُها، تُرادفها أخرى وهي عدم تنظيم ما أجمع وألتقط، فلا أجدها عند الحاجة فكأنها لم تكن. لكن – الاستثناء لا يغيب عن حياة وأعمال البشر – فكما يقول المثل الشائع هنا، " لا شرّ يأتي إلا ويحمل خيرا"، كعثوري عفوا على إحدى تلك القصاصات والمذكرات، فتوحي لي بموضوع، فأستغلّها لإثراء ما أكتبه بها وعنها، كما هو الحال الآن، وأنا مرتاح لأني عند النقل، لم أهمل اسم صاحب القول ولا الوسيلة التي وجدت بها ما نقلت. إنه مقتطف من حديث طويل، أجرته مجلة الفكر الفرنسية، ذات السمعة والصيت، مع المفكر ورجل القانون المبرّز، عالِمنا النّحرير، الأستاذ عياض بن عاشور. ليس في الإمكان أفضل ممّا كان. أخذت المقتطف، وتجرّأت على ترجمته، فها هو أقدّمه لقراء وقارئات الصريح، أساسا لما قد يبدو لي من آراء وأسئلة. يقول أستاذنا الكبير، رعاه الله: " إن المعركة الديمقراطية صراع متجدد على الدوام. والناس ذاكرتهم قصيرة. فبمجرد أن تدخل ديمقراطية في أزمة، أو تزول مخاطر الاستبداد، تركوها وصوتوا لأعدائها، ناسين المآسي التي يمرون بها عند فقدانها. فيجب أن يتحملوا من جديد، فضائع حكومة سلطوية أو دكتاتورية، ليعرفوا أن الحكومة الديمقراطية ليست هي الأقل سوءا، لكن، رغم نقائصها، هي أفضل نظام. إن الثورات العربية عام 2011 هي ثورات ديمقراطية. فمثابرتها ووثباتها المستمرة من عام 1964 إلى سنة 2019 تؤكد، بأنها ليست نار تبن، (أي سريعا ما تنطفئ)، بل أنها تمثل توجهات ثقيلة، لها وزنها في التطور السياسي للعالم العربي، وهو على درب عدم الخضوع الديمقراطي. فمن الآن لم تعد المطالبة بالديمقراطية مفروضة من النُخب، ولا من الدولة. إن المطالبة الديمقراطية هي بصدد البروز من الطبقات الشعبية الأكثر اتساعا. "الشعب يريد" هذا ما يقال منذ أكثر من خمسين سنة. إن الشعوب، عبر مظاهراتها الضخمة، في السودان، في تونس، في مصر، في الجزائر، دون أن ننسى أيضا، في سوريا، في المغرب، في اليمن وفي ليبيا، لا تعبّر، وهو ما يجب أن يكون، عن عقائد أجنبية، مستوردة من الغرب. فالمستقبل مفتوح أمامهم." ألا يجوز القول هنا " إن من البيان لسحرا " مدحا لا ذمّا، لأن المفسرين اختلفوا في تقييم الحديث الشريف، وأقول مدحا، مؤيّدا قولي بما سيأتي. فمفكرنا المبجل، الدكتور عياض، قد حوصل في جملة واحدة، فأكد نضال الجماهير العربية فأسماه ثورة، وأرّخه فحدّد له نصف قرن تقريبا، ثم نعته، بالديمقراطية. ديمقراطية بمفهومها الجامع الشامل، إذ هي نضال لا نظام حكم، فهي إذن تحمل في طياتها السلم وترك العنف. ثم توَّجَها عالِمنا البليغ بانبعاثها من صميم الشعب، من قلب الجماهير، نافيا إملاءها أو تسييرها، أو فرضها من أية جهة، نخبة كانت من نخب الشعب، أو سلطة حاكمة. ثمّ إن رجل الحقوق والقانون الأستاذ بن عاشور، أكّد بطريقة تعبيره الخاصة، ما آمنّا به دوما، وهو ثقتنا في شعوبنا اعترافا لها بنضالها الدائم المستمر، ضد المستعمر أو ضد ظلم ذوي القربى، ناضلت ولا تزال، بإيمان وبطرق قد تُسمّى عفوية. هنا يأتي دوري ودور القارئ أو القارئة، فنتساءل ونسأل، تحت وطء الحاضر الذي تتخبط فيه تونس مثلا، هل النضال والمطالبة بالتغيير والتطوير ديمقراطيا كاف لبلوغ الغاية؟ أم هو في حاجة إلى سند ومعين؟ فإن جاء الجواب عن الشق الأول من السؤال نفيا، أي ضرورة السند أو المعين، يُطرح سؤال جديد هو: من أو ماذا هو السند؟ لقد شاهدنا بكلّ أسف وأسى، كيف انهال الطامعون " المتفرّجون" على الثورة، وكيف أجهضوها، فجعلوا منها آلة ووسيلة لتنفيذ أغراضهم وطموحاتهم، التي هي أبعد ما تكون عن مطامح الشعب الذي ناضل وطالب، وهو" يريد " حياة كريمة، وعملا مفيدا له ولغيره، وسلما وأمنا، يجعلان الحوار سهلا، والاتفاق ممكنا، وتوافر الجهود يسيرا، لأن القاعدة الصحيحة هي: الواحد للكلّ والكلّ للواحد. ليتني نقلت الحديث بأكمله إذ في طياته آراء ومقترحات ذات بال، دون أن نجد فيه، على ما أذكر، إجابة عن سؤالنا هذا، لأن السند الوحيد الذي تجده الجماهير لثوراتها الديمقراطية، هي القوّة، أي العنف، ومفكرنا الكبير لا يقبله، كما لا يرضى به أي عاقل إخلاصا منه، أو حتى عبرة بغيره، لأن ما يجري في سوريا، واليمن، وليبيا بجوارنا، كاف بأن يقبل المرء بكل الوسائل، إلا العنف بين الأشقاء، أبناء الوطن الواحد، الأم الواحدة. ألم يقل الله سبحانه الفتنة أشد من القتل؟ لأنها علاوة على هدمها وتخريبها إبان الفتنة، فما تتركه من عداء، وضغينة، وكراهية، وحب انتقام، لا حدود له عاطفيا وزمنيا، فلا ضمان لمستقبل سليم. أين يوجد الحلّ إذن؟ في القانون، كما قال السيد رئيس الجمهورية. نعم بالقانون والقانون وحده. وأعتقد أنه بإمكاني القول، إني كنت على مثل ذلك من الشاهدين. عايشت وتابعت وتحسست وسألت وناقشت ثم كتبت، عن تجربة مثالية في " التسلّح " بالقانون، للخروج من نظام سلطوي ظالم غاشم، إلى آخر ديمقراطي متحرّر، وذلك هنا في إسبانيا. شرحت ذلك تفصيليا في كتاب أسميته " إسبانيا من الدكتاتورية إلى الديمقراطية: أمثولة وقدوة" نشرته دار سحنون للنشر والتوزيع بتونس، وفيه مثال حي، صعب معقد، أي نعم، لكنه ضامن النجاح، وهو التنقل " من القانون إلى القانون، عبر القانون "حسب تعبير توركواتو فيرناندث ميراندا، أستاذ القانون هو الآخر، درّسه للأمير الذي أصبح ملكا فكان مستشاره ودليله القانوني، فبهما وخاتم الثالوث أدولفو سووارث رئيس الحكومة المنتخب، أمكن، وفي أقصر وبت، تحقيق المعجزة، وانتصار الديمقراطية على الظلم والتعسف، بالقانون والقانون وحده. يكفي المتبصّر أن يستخلص أن حقوقيا في إسبانيا، وآخر في تونس، والثالث في رئاسة الجمهورية التونسية، آمنوا بأن القانون وحده كفيل بأن يضمن الإصلاح والتغيير، وهو سلاح من لا سلاح له، أو لا يريد استعمال السلاح ولا العنف بأشكاله. ما الذي ينقصنا إذن؟ القرار، أي الإرادة والتنفيذ، فإلى الإنجاز إذن يا أصحاب القول والفصل. لقد طال الانتظار، والأمور تزداد تعقيدا كل ساعة، والمنتظر منهم العمل يهزؤون ويلعبون، واضعين أمل تحقيق ما أخفوه، في مرور الزمن الذي، حسب التعبير الصيني، يحلّ كلّ المشاكل. فليُسدّ الطريق أمام المفسدين بالإرادة والجسارة، لأنه كما قيل: " فاز باللذة الجسور." مدريد 3-7-2020