اليوم الديمقراطية التي تعد أرقى ما وصل إليه العقل البشري في العصر الحديث لتنظيم الاختلاف داخل المجتمعات وممارسة الحكم وإدارة الشأن العام بطريقة تجنب الاحتقان والتناحر وتسمح بالتداول السلمي على السلطة من خلال الانتخاب و بالاعتماد على صناديق الاقتراع تعيش أزمة خانقة بعد تراجع بريقها وفتور تحمس الناس لها.. وهذه الآلية في الحكم الموغلة في القدم والتي يعود تاريخها إلى القرن الخامس قبل الميلاد في اليونان القديمة بما يجعلها أقدم ديمقراطية عرفتها البشرية هي اليوم في أسوأ أحوالها بعد أن فشلت في إسعاد الإنسان وتحقيق رفاهيته التي يرنو إليها من خلال اختيار الديمقراطية نظاما سياسيا للحكم. هذه الديمقراطية التي وثقت فيها البشرية لتحقيق الأمن والسلام داخل المجتمعات وتحقيق العدالة الاجتماعية وضمان العيش الكريم للشعوب هي اليوم مرهقة ومتعبة وتعرف صعوبات لمواصلة التأثير والفعل وتعرف وضعا سيئا وهذه الملاحظة ليست بالجديدة و لا هي وليدة اليوم وإنما هي معطى قد أشار إليه العديد من المراقبين من خلال الأرقام والعينات الحيّة كما تعرضت لها الكثير من التقارير التي أوضحت بأن الديمقراطية في هذه المرحلة وكما هي مطبقة على أرض الواقع في الكثير من البلدان تعرف تراجعات رهيبة ومن هذه التقارير التي أشارت إلى وجود تحولات عميقة في المنظومة الديمقراطية ما تنشره منذ سنوات مؤسسة " فريدم هاوس " التي تعنى برصد حال الديمقراطية في العالم وتراقب وضعها في المجتمعات وخاصة تقريرها الأخير الذي انجزته بعنوان سنة 2020 الذي بينت فيه بكل وضوح أن الديمقراطية تتراجع في كل القارات وذلك لسببين اثنين : الأول مرتبط بسلوك الحكام المستبدين والثاني يعود إلى تهرأ المنظومة السياسية الليبرالية التقليدية. هذا التقرير هو التقرير عدد أربعة عشرة الذي تنتجه مؤسسة فريدم هاوس و تأتي نتائجه سلبية و قد رصد التراجع المتواصل للديمقراطية من سنة إلى أخرى في معظم الدول حتى تلك التي تعرف بعراقتها في ممارسة الحكم الديمقراطي وقد تناول التقرير هذه السنة بلدين من أعرق البلدان في الديمقراطية على المستوى العالمي وهما الهند والولايات المتحدةالامريكية حيث كشفت نتائجه أن حال الديمقراطية فيهما ليس على ما يرام ولا في أحسن حال بعد أن تصاعدت موجات الاحتجاجات الاجتماعية التي تطالب بتغيير الأوضاع وتحسينها وتحقيق المطالب التي تنادي بها الشعوب لقد لاحظت مؤسسة فريدم هاوس أن موجة الاحتجاجات الاجتماعية التي بدأت تكتسح العالم وتتسع دائرتها مثل احتجاج السترات الصفراء في فرنسا ومثل الحراك في الجزائر ومثل احتجاجات لبنان وغير ذلك من الاحتجاجات الاجتماعية التي تعبر صراحة عن مناهضتها للديمقراطية وتتحرك من خارج منظومة الأحزاب والنقابات وجمعيات المجتمع المدني وهي كلها تمثل آليات الديمقراطية المطبقة في كل الدول بما يعني أن هناك اليوم تحول جذري في المعارضة والاحتجاج لا يعترف بالديمقراطية ويتحرك من خارج أطرها التقليدية بما يؤكد التراجع الكبير الذي رصدته كل التقارير في وضع الديمقراطيات في العالم والذي يعود إلى سنة 2003 في زمن الرئيس الأمريكي جورج بوش الأب حينما حاول أن يرفض تطبيق الديمقراطية في الدول العربية وإحلالها في العالم بالقوة ومنذ ذلك التاريخ بدأ يظهر على الشعوب عدم رضا على الديمقراطية وتذمر منها وبدأ يظهر رفضا كبيرا لمنظومة الديمقراطية وكل أطرها. وقد اعتبر المفكر الأمريكي ناعوم تشومسكي أن البشرية مهددة في مستقبلها القريب من وراء أخطار ثلاثة: الأول تهديدها بالقنبلة النووية الذي تنامى خطرها منذ وصول الرئيس دونالد ترامب للحكم والثاني ما تعرفه البيئة والمحيط من كوارث مهددة لصحة الإنسان ووجوده والثالث هو انتهاء الديمقراطية بعد تصاعد الشعبويات في العالم وعودة النزعة القومية في الكثير من البلدان التي تعادي المهاجرين وتطالب بطرد الأجانب وتنتصر للقضايا الداخلية للدول وترفع شعارات عنصرية مثل شعار " فرنسا للفرنسيين " الذي يتبناه اليمين المتطرف في فرنسا وشعار "أمريكا أولا " الذي جاء به الرئيس الأمريكي ترامب للحكم وقد زاد من أتعاب الديمقراطية في العالم فشل أحزابها في تحقيق التنمية المنشودة والتي تطالب بها الشعوب وفشلها في معالجة اكراهات المجتمعات من فقر وبطالة وتهميش وفشل في إدارة الازمات و فشل آخر في الانتصار لقضايا الإنسان بعد أن تخلت الحكومات الديمقراطية عن دورها الاجتماعي ودورها الحاضن للفئات الفقيرة والطبقات الضعيفة وتحولت إلى دولة شريك مع القطاع الخاص في إدارة الشأن العام. اليوم هناك كتابات كثيرة تصدر في الغرب تنبه إلى ما تعرفه الديمقراطية التمثيلية من مآزق كثيرة في الواقع وإلى ما تعيشه من إرهاق وتعب بعد قرون من التطبيق حيث أن هناك مخاوف عديدة لدى الكثير من السياسيين من وصول النظام الديمقراطي إلى نهايته بعد أن بدأت آلياته تتهرأ وتتعب الأمر الذي جعل الشعوب تراجع جدواها وتناقش إمكانية البحث عن آلية أخرى للحكم وهناك نقاش آخر يدور اليوم في الأوساط الفكرية حول التهديد الذي تمثله الحركات الاجتماعية التي بدأت تفرض نفسها على ستقبل الديمقراطية في العالم حيث يلاحظ نفور الشعوب وفقدانها للثقة في هذا النمط الديمقراطي للحكم في قدرته على إسعاد الإنسان بعد أن انكشف خداع الديمقراطية وزيفها فهل حقا قد وصلت الديمقراطية الغربية إلى نهايتها ؟ وهل تحتاج الانسانية إلى البحث عن نظام حكم جديد يكون البديل عن نظرية حكم الشعب نفسه بنفسه كما ظهرت في مدينة أثينا القديمة وتطورت مع فلاسفة عصر الأنوار؟