منذ عدة اسابيع انطلقت دعوات كثيفة الى الاحتجاجات الشعبية بكامل البلاد بداية من 17 ديسمبر. ولقد أطلق عليها البعض -ثورة التصحيح- ! لكن الخوف كل الخوف ان تكون هذه التحركات تدميرية غير سلمية، فتجهز على ما تبقى من البلاد! لقد نشرتُ منذ اسابيع عديد المقالات عبر شبكة التواصل أدعو الى التعقّل واجتناب الفوضى واستبدالها بتظاهرات خطابية فيها تبادل للرأي السياسي وكيفية الإنقاذ، ولا سيما مطالبة الرئيس قيس سعيد بتأسيس هيكل سياسي وطني كبير!! إذن، نتمنى من هذه الاحتجاجات أن تكون بمثابة مؤتمر فكري وليس هرج واندفاع اعمى كما جرّبناه منذ عشر سنوات! لقد كانت النتيجة أن ركب الانتهازيون المفسدون على ثورتنا وشتتوا حتى الإرادة الشعبية التي كانت موحّدة، خربوا البلاد وتركونا مقهورين مستائين يائسين، نشعر حتى بالخزي من مشاركتنا في الثورة، بعد أن كنا في البداية مستبشرين ونشعر بالفخر وبالوطنية! قال المتنبي :الرأي قبل شجاعة الشجعانِ *هو أولٌ، وهي المحلّ الثاني! الشعب يحمّل قيس سعيد مسؤولية كل صغيرة وكبيرة رغم محدودية صلاحياته!..وربما الشعب محق في هذا، فهو قد أسند إليه شرعية انتخابية تعادل شرعية البرلمان مرتين!! ولذا فعلى الاستاذ قيس سعيد حسن ترويض طاقة الشعب التي قد تنفلت وأفضل طريقة هي تأسيس حزب !.. لكن يبدو أنه يتحاشى هذا،فمن ناحية هو ملزم بالدستور الذي ربما "لا يسمح "ناهيك عن انشغاله بدواليب الدولة!.. التردد سبب الفشل السياسة كلها أمواج وتقلبات كالبحر، فيصعب الالتزام بتعهدات وتصريحات، ومن ذلك تعهدُ قيس سعيد سابقا بعدم التحزب الذي اتضح قصوره الكبير جليّا ! قيس سعيد رجل أخلاقي بإمتياز، ولكن هذا أحيانا ينقلب سلبا في الميدان السياسي، فالضرورات تبيح المحظورات! عليه على الأقل أن يأخذ ولو بشيء يسير من أسلوب الغنوشي وتقلباته العجائبية، حتى قال مرة مفاخرا بها «الاغبياء هم فقط الذين لا يتغيّرون»! جبل الجليد إذا تمادى قيس سعيد في هذا البرود والغموض فستنهار شعبيته بشكل فجئي كما ينهار جبل الجليد !(منذ اسابيع حذّره الصافي سعيد من نهاية تعيسة..ومنذ أيام بعث عمر صحابو اليه برسالة يدعوه إلى الإستقالة "على شاكلة الجنرال ديغول" ..أما الغنوشي فقد أعلن عن نية الترشح لرئاسية 2024!) في الإتحاد قوة هذه مقولة لها شواهد عبر العصور في الأديان والفلسفات والسياسات، وهي مازالت سارية المفعول وستبقى أبد الدهر..(من اقوال محمد إقبال في قصيد -حديث الروح- وفي التوحيد للهِمم إتحادٌ *ولن تبنوا العُلا متفرّقينا...) فالاصلاح مستحيل دون توحيد الخيرين.لكنهم الآن ينظرون عاجزين «شبكات الفساد في تونس أطول من شبكات المجاري!» ولكن يصعب الاقتراب منها بسبب اللوبيات المتحالفة مع بعض الأحزاب النافذة المختطفة للثورة "لاتصلُح ولاتُصلِح"(بحسب المقولات القديمة لقائلهم المتثورج من قناة الجزيرة...فإتضح أنه ومن معه ألدّ الخصام !) .. الأستاذ قيس سعيد جانبَ الصوابَ حين توهّم إمكانية الإصلاح دون تجميع إرادة الشعب في هيكل سياسي.فلا مناص من تأسيس هيكل سياسي كبير يجمع شتات الشعب الذي بعثرته الاحزاب !!..مع العلم أن مجرد الإعلان عن نيّة التأسيس سيعتبرها هؤلاء المفسدون إعلان حرب! أما الشعب فسترتفع معنوياته وحماسه. التشتتُ بيتُ الداءِ لقد اثبتت عشرية ما بعد الثورة أن توازن البلاد مستحيل ان يتحقق إلا بالشكل الذي كانت عليه البلاد قبل الثورة.هذا التوازن لا يكون إلا بحزب اغلبي مهيمن شعبيا وبرلمانيا وحوله معارضة غير كثيفة.أما اذا تقاربت الأحجام فتلك هي الكارثة التي وقعت فيها البلاد ! النظام الرئاسي هنالك من ينادي "بنظام رئاسي" لكنهم لم ينتبهوا الى أن هذا سيفضي الى طريق مسدود.فالنظام الرئاسي الذي يمكّن شخصا واحدا من السلطة التنفيذية "كخاتم في الاصبع"يستوجب بداهةً شخصية كاريزمية حولها اجماع كبير ،وهذا غير موجود، ولن يوجد في المستقبل المنظور.فالزعيم عند فئة قد يعتبر فاسدا او حتى شيطانا عن فئات أخرى ! فلو قدر الله يتوفى قيس سعيد فستقع البلاد في مطب كبير ونحتار في من سيخلفه في "نظام رئاسي" لغياب شخصية كارزمية..لقد وقعت البلاد في شقاق ونفاق وقيل وقال وجدل بيزنطي«واذا اراد الله بقوم سوءً اعطاهم الجدل ورفع عنهم العمل»(ويكفي ان نتذكر انهم اختلفوا حتى في مجرد تشكيل محكمة دستورية، رغم مخاض 6 سنوات!) المجالس المحلية والحزب نحن على يقين مطلق بأن للأستاذ قيس سعيد كاريزم ناتج عن مواصفات نادرة ومنها المصداقية والكفاءة والنُبل، ولا سيما التقارب مع مختلف العائلات والتيارات السياسية كمركز وسط(Barycentre).هذه المواصفات المهمة تسمح له بتأسيس هيكل سياسي وطني كبير ليستمر عقودا، فيكون بدلا عن هذه الفسيفساء الحزبية المتناحرة التي شتتت الإرادة الوطنية وجعلت الشعب يكره ويعادي بعضه!..فقيس سعيد هو في الحقيقة فرصة ثمينة للبلاد،ونرجو ان ينجح في رهانه حين قال: «اما ان تتحدث عنا اجيال من احفادنا بفخر،أو ان نكون سطرا مخجلا يدرسونه في كتب التاريخ»! لكن هذا الهيكل السياسي يجب أن يكون مدروسًا بمنتهى الدقة،من تراتبية ومقاييس صارمة لسلوك قيادته ،وأهمها اثنان :النظافة اولا ثم الكفاءة ثانيا !!أما تأسيسه فلا يكون بطريقة فوقية بيروقراطية، بل بمشاركة وطنية موسعة(بشخص من كل ولاية او حتى من كل معتمدية...وربما تُستدعى إليه أيضا بعض الشخصيات اللامعة من فنانين وشعراء وأدباء وفلاسفة وعلماء دين..) أما المجالس المحلية فهي بدورها على درجة قصوى من الأهمية.هي رافدٌ ودعامةٌ للبرلمان الذي لا يستطيع ان يحيط بكامل مشاغل وهموم الشعب.إن اكبر دليل على قصور البرلمانات هي الاحتجاجات والاضطرابات! (انظر المقال:الصريح،المجالس المحلية والحزبية) انه من واجب الاستاذ قيس سعيد تأسيس هذا الحزب الشعبي الذي سيضمن بعون الله وحدة البلاد لعقود لاحقة،فيكون بمنزلةعقل البلاد وروحها..فالبلاد لا تُقاد بالدولة فحسب،وانما بالثنائي الدولة والحزب (جميع الزعماء المؤسسين كانوا يولون عناية فائقة للحزب،ومنهم بورقيبة خاصة..بل وحتى المسلمين في بداية البعثة النبوية !) فإذا كانت الدولة هي عصب البلاد فالحزب هو روحها وروح الشعب وعامل وحدته وتماسكه فالحزب أهم من الدولة نفسها، بدليل أن الحزب ينهض بالدولة لو سقطت،أما الدولة فلا تستطيع توحيد شعب سقط في التفّرق وانعدام التآلف! وننبه الاستاذ قيس سعيد بهذه الملاحظة فنقول له: نحن مقتنعون بأنك مصلح، لكن هل انت ضامنٌ لحياتك؟ اذن هل يعقل تكون بلاد بأكملها رهينة حياة شخص واحد!!!؟ .......................... انظر خاتمة المقال الطويل بالصريح:الصريح،الوفاق المطلق.