نجاعة نمط الحكم لا تتوقف على نوعية النمط في ذاته، وإنما على ثلاثة عوامل:الحاكم والمحكومين وظروف الحكم. فمن ناحية ليس كل الحكام سواء، ففيهم عمر وفيهم نيرون.ومن ناحية مقابلة ليس كل المحكومين سواء ففيهم المتجانسين الاصفياء وفيهم المضطغنين بالنعرات الفئوية والجهوية والطبقية ! ثم ايضا ظروف الحكم، فمثلا في حالة الخطر الداهم تتيح كل الدساتير حكما دكتاتوريا. وقد قيل «لكل حادث حديث ولكل مقام مقال».ولهذا، فقبل ان نسقط على أي أمة نمط حكم ما علينا أولا ان نقوم بدراسة مستفيضة!! وفي تونس تم اسقاط نمط حكم شبه برلماني (وربما ايضا لغاية في نفس يعقوب!) ولهذا بقيت البلاد في البلاء تعاني....لكن منذ بداية عُهدة الرئيس الراحل الباجي السبسي والنخبة الوطنية لا تكاد تتوقف عن الدعوة الى حُكم رئاسي كأنما هذا النمط قنديل علاء الدين او يقطر لبنا وعسلا...وفي الحقيقة هذا النمط له استراطات عدة ومن بينها خاصة انه يستوجب شخصية حولها اجماعٌ كبير، وهذا مفقود بسبب تضارب التيارات وكثرة الأحزاب، فالزعامات كلها فئوية واحيانا متضاربة جدا الى درجة أن الزعيم عند فئة يُعتبر"فاسدًا " عند فئات اخرى، وبكل تأكد هذا التشرذم يجعل الحُكم الرّئَاسيّ نشاز ، بإعتباره يُسلّم البلاد «خاتم في الأصبع» لشخص واحد. وقد يُوقع البلاد في مطب وجدل بيزنطي دون التوافق حول رئيس(6 سنوات ولم يفلحوا في مجرد تركيز محكمة دستورية!!) وحتى لو أفلحوا فعهدته ستكون مناكفات و"عصا في العجلة"!.. لقد كان الحُكم الرئاسي سابقا، في تونس وغير تونس يستند الى شرعية نضالية وشعبية كبيرة، ومن هؤلاء الزعماء بورقيبة و بومدين وعبد الناصر..الخ..(دون ان ننسى عامل الدكتاتورية "كعامل تعديلي" حيث يفرض القرارات فرضا..والآن هذا "العامل" ذهب بلا عودة..)...اما في هذا الحكم "البرلماني" فالبلاد جد متعثرة كما أشرنا، لكن العيب ليس بالضبط في "النمط البرلماني" وانما في غياب عاملين أساسيين لا غنى عنهما يستوجبهما هذا النمط من الحكم (أحدهما او كلاهما) : إما بمناخ توافقي. وإما بوجود حزب اغلبي مهيمن برلمانيا وشعبيا. لكن اذا انعدم كلاهما،بمعنى غياب الروح التوافقية مع تقارب في الأحجام الحزبية،فذلك هو المطب الذي وقعت فيه بلادنا !..وفي هذا الوضع يجب البحث الجاد عن حل حتى لو تطلّب فرض الوفاق فرضًا وعنوةً (مثلا بتجميد الانتخابات وتقاسم البرلمان بين جميع التيارات السياسية، وعددها 6 انظر المقال:الصريح،تونس ومستلزمات الشفاء). يمكن ايضا ان نحصل على "حزب مهيمن" بإتحاد عدد كبير من الاحزاب الفاعلة، لكن هذا صراحة نستبعده،فنحن نرى الانشقاقات في نفس العائلة والتيار ..اما الحل الثالث فموكولٌ الى الاستاذ قيس الذي بإمكانه تأسيس حزب وطني كبير، واذا كان محكَم البناء فمن الممكن ان يضمن تماسك وترابط البلاد لعقودٍ لاحقة،ويكون بمنزلة الحزب الوطني ! واذا وجّهنا حديثنا الى الاستاذ قيس سعيد فسنقول :هذا هو القتال الذي «كُتب عليكم وهو كره لكم» او بحسب المقولة « إما ان تتحدّث عنا اجيالٌ من احفادنا بفخرٍ أو أن نكون سطرًا مخجلًا يُدرّسونه في كتب التاريخ»..وفي الحقيقة الاستاذ قيس سعيد مؤهلٌ بشكل استثنائي لهذه المهمة بإعتبار ما يميّز شخصيته الفكرية من تقارب مع الجميع، كأنه مركز وسط مختلف التيارات barycentre..! الحزب الأغلبي لا غنى عنه (لا سيما في الأمم طور التكوين،او التي تكابد من اجل الخرج من ازمة خانقة.. ).وفي تونس بيّنت هذه العشرية أنَّ توازن البلاد مستحيل إلا بالشكل الذي كان عليه قبل الثورة: حزبٌ اغلبيٌ مهيمنٌ ومعارضةٌ "لاافراط ولا تفريط"، أما اذا تقاربت الاحجام فيختلط الحابل بالنابل وتضيع الإرادة والوحدة الوطنية كما نرى الآن.. إن الحزب الشعبي الأغلبي أهم من الدولة ذاتها!( بديل أن الشعب المتّحد يصنعُ دولتَه لو سقطت.بينما الدولة لا تستطيع توحيد شعبٍ اذا سقط في التفرّق !).ومن ناحية ثانية المجتمع البشري ليس قطيع دواجن يُحكم بالوسائل المادية فحسب(الدولة) وإنما بالوسائل المعنوية الروحية والفكرية(الحزب).في الختام نذكّر بأن الحزبية التي تحاملنا عليها سابقا بعدة مقالات انما كنا نتحامل على «الحزبية الخبيثة» أي التي تُفرّق الشعبَ.أما «الحميدة» التي تُجمّع الشعبَ فكل الحكماء يباركونها، ناهيك عن الاديان وأوّلها الاسلام : قال تعالى {ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحُكم...}.