قال صاحبي، كأني بك تمجد القديم الماضي وتحافظ عليه، وترفض المستحدث الجديد فلا تعيره اهتمامك. قلت لو تبصرت في قولك وحكمك، لتبيّنت غير الذي تقول. فأنا أعمل بما فضل به الله ابن آدم على سائر المخلوقات، وأعني العقل، وأحاول اتباع وصايا الله وتوجيهاته فأتعقل، وأتبصر، وأتذكر، وأتفكر، عسى أن أكون من المهتدين. إني إن حافظت على القديم العتيق، فلا لقدمه ولا لحنين ماض، بل هو نتيجة ما أتى به من فوائد ومنافع، بعد تجارب تتابعت طوال سنين وعقود. فما أثبت نفعه ومردوده، وتأكد تناسبه مع الأشخاص والأوضاع، لا عمر له، فهو باق ما دام صالحا. أما المستحدث، الذي يعتنقه غيري قبل أن يعرف عنه سوى أنه آخر ما ظهر وعُرض، ويفتخر به ظانا أنه أثبت به تقدمه، وأنه به متطور وابن زمانه، فيفتخر ويتباهى بين الخلان والجيران. أما أنا، فلست رافضه ولا قابله، بل متأنٍّ حتى أفهمه، وأحصل على ما يثبت فوائده ومردوداته، التي يشترط أن تكون مناسبة لي مفيدة، تتماشى وحاجياتي ومصالحي وأوضاعي، فأقبله وأستفيد منه، وإلا رفضته رفضا باتا ولو نعتوني بالمتأخر، المتزمت، المحافظ، وكِلْ من هذه الأوصاف ما شئت. يقول المثل الإسباني: " ليس كلّ لمّاع ذهبا " وأنا أضيف: " ليس كلّ جديد مفيدا." إن من أخطر أمراضنا الاجتماعية الحديثة، خضوعنا الكامل وتصديقنا الأعمى لكل ما يُقدّمه لنا الإشهار ودعاياته، نخضع ونصدق دون روية أو تأكّد من صحة ما يقال، وصدق ما يوصف، كأنّ كلام الإشهار منزل، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ونُقبِل على الشراء والاقتناء قبل أن نتأكد من أننا نحتاج فعلا ذلك المعروض. وإن احتجناه هل يناسبنا عمليا وثقافيا واجتماعيا؟ لا شيء من هذا، بل نخضع ونقلد فنشتري، وبمشترياتنا نسعد المنتجين، وهم في أغلب الحالات أجانب لا مواطنون، فنساهم في إثراء الأثرياء وتفقير فقرائنا، إرضاء لأنانية متفاخرة، وضعف شخصية فاقدة العقل والتعقل. لو تبصّر كلٌّ منا، وعاد لنفسه يحاسبها، وقام بجولة في منزله يعدّ ويحسب الأشياء التي اشتراها وهي مركونة مطروحة، لا هو في حاجة إليها ولا هي صالحة له، وإن صلُحت فليوم أو ساعات تباهى بها أمام من يريد الظهور بينهم بمظهر المتقدم السَبَّاق. كم من هاتف محمول، ومذياع جيب، وساعة، وأُرْبة، وحذاء، ومن هذه الأمثال والحاجيات غير المحتاجة ولا اللازمة، الكثير الوفير، قد يكون اقتُني على حساب ما هو ضروري لازم. لنأخذ مثلا الهاتف المحمول، لأنه ابن الساعة، ولأنه أخطر وأضر ما يُقتَنى هذه الأيام. يُعرض في الأسواق وبدعاية وجعجعة تصم الآذان وتُذهب الأفكار، نوع جديد تعدّد خصاله وخدماته حتى يملّها المرء. لا تمرّ على ذلك إلا بضعة أشهر أو سنة على أكثر تقدير، حتى تقوم القيامة الإشهارية لمولود جديد يقال إن فيه إضافة ليست في غيره. يكفي هذا بأن يُترك الهاتف الذي لم تمرّ عليه مدّة التدشين، ويُحتفل بقدوم الآخر الجديد العصري التقدّمي المتطور، وهذه أوصاف ونعوت تعود كلها بطريق غير مباشر، على الذي اقتناه ويستعمله. هل معنى هذا التصرف غير المتعقل ولا المتبصر معناه العمل بالمثل الشعبي القائل: " طاح الجديد على القديم رماه؟" حتى لو كان كذلك، فأنا اسأل: " هل ثمّة بين العديدين الذين سارعوا لشراء المنتوج الجديد القديم، مَن توقف ولو بُرهة ليسأل نفسه إن هو حقا في حاجة إلى ما هو مقدم على شرائه؟ هل تمهّل لحظات معدودات ليسأل نفسه ما هو دور الهاتف لديه، وما هي الحالات الحرجة الضرورية التي يلجأ فيها إلى خدمات الهاتف؟ أستطيع من مكاني البعيد هذا أن أؤكد أن لا أحد فعل ولا أحد شغل باله بمثل هذه الأسئلة التي، لو سئل عنها لوصفها بالترهات واعتبرها غير ذات بال. لأن الأدمغة مغسولة، والأفكار مُسَيَّرة، والإرادة الشخصية مفقودة، والجماهير أصبحت قطعانا تُسيَّر بلا كلاب ولا رعاة. قطعان لا تعرف سوى الاستهلاك والنهم وحب التفاخر "والفخفخة" كما نقول. يكفي الباحث عن إثبات وتأكيد، أن يقف على باب أحد المنازل، ويلقي نظرة عابرة على القمامة التي رمى بها ساكنوه، ليجد من فضلات المأكل ما يًشبع عائلة أو أكثر، من الذين يموتون جوعا وتعرضهم علينا شاشات المرئيات المحلية والفضائية ونحن على مائدة الغداء أو العشاء. تبذير في تبذير، والله سبحانه ينهى عنه لأن المبذرين إخوان الشياطين وكان الشيطان لربّه كفورا. إن الأمثلة المجسّمة لكثرة استهلاكنا وتبذيرنا، وتصرفنا بلا تعقّل ولا تبصّر، عديدة وافرة، لكني أكتفي بما ذكرت وأوضحت، لعدم الحاجة للتكرار، فمن التكرار ملّت الأمم، لكن لابد لي، إن أردت الإفادة والاستفادة، من أن اسأل وأتساءل ما الحل وما هو العلاج ضد هذا المرض العضال؟ قبل الإجابة عن سؤالي، عليّ أن أذكر، إحقاقا للحق، أن الوباء ليس موقوفا علينا، بل هو منتشر كما انتشرت جرثومة الكوفيد 19، لأن الشركات الكبرى، متعددة الجنسيات كما تسمّى، قد مهّدت السبيل، وعبّدت الطريق، وغسلت الأدمغة، وأثارت ضعيف الأحاسيس، والناس نيام، كي تضمن رواج منتوجاتها وعودة الأرباح والفوائد إلى صناديقها، وليمت في الأثناء من يمت، " والبقاء للأصلح". البقاء للأخبث، البقاء للأناني، البقاء لفاقد الضمير، ما دام يُقابل بالاستسلام أو حتى بالتقدير والاحترام، من ضحاياه الذين لا يعلمون، أو لا يريدون أن يعلموا. فلا بد لهم من معلمين مدربين، فيأتي دور وواجب علماء الاجتماع وأمثالهم من ذوي الاختصاصات، ليضعوا برامج ومناهج تكوينية تثقيفية، تغيّر ما بالجماهير، وتنير عقولهم بعد تحريرها من ربقة الذين قاموا بغسلها والتحكم فيها وتسييرها " عن بعد " وعن طواعية وامتثال. ليست المهمة سهلة ولا بسيطة، بل هي معقدّة متعدّدة التقنيات والإرادات وقد تحتاج إلى قوانين وتشريعات، وهذا يعني ولوج ميدان السياسة والسياسيين، ومن ولجه عليه وعلى الدنيا السلام. هل يعني هذا وجوب الاستسلام؟ كلا وألف كلا. لأن الشعوب الحيّة لا تستسلم، وإنه لو تعلقت همة المرء بما وراء العرش لناله. وما نيل المطالب بالتمني ولكن تؤخذ الدنيا غلابا. فلينهض المصلحون المخلصون، ولينادوا بالتغيير الجذري للثقافة الخاطئة السائدة، وليجسموا المرض وأعراضه، وليلقنوا طرق ووسائل علاجه، وليبثوا جديد وشريف وقيّم المبادئ والأفكار، وليبعثوا الحماس في النفوس والعقول، وسيصبح الشعب النائم المستسلم، تيارا جارفا واضحة سبيله، بيّنة أهدافه، معلومة غاياته، فهو بالغها إن عاجلا أو آجلا لأن من سار على الدرب وصل، ومن بذل الجهد عمل، ومن عمل وأصاب له أجران، ومن عمل ولم يصب فله أجر واحد. مدريد في 4-12-2020